مَعَهُمَا الْمَوْسِمَ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَقْفَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِعَرَفَةَ كَانَتْ سَنَةَ عَشْرٍ وَكَانَ جُبَيْرٌ حِينَئِذٍ مُسْلِمًا لِأَنَّهُ أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَإِنْ كَانَ سُؤَالُهُ عَنْ ذَلِكَ إِنْكَارًا أَوْ تَعَجُّبًا فَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ نُزُولُ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ وَإِنْ كَانَ لِلِاسْتِفْهَامِ عَنْ حِكْمَةِ الْمُخَالَفَةِ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ الْحُمْسُ فَلَا إِشْكَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَقْفَةٌ بِعَرَفَةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا بَيَّنْتُهُ قَبْلُ بِدَلَائِلِهِ وَكَأَنَّهُ تَبِعَ السُّهَيْلِيَّ فِي ظَنِّهِ أَنَّهَا حَجَّةُ الْوَدَاعِ أَوْ وَقَعَ لَهُ اتِّفَاقًا.
وَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ الْإِفَاضَةُ مِنْ عَرَفَةَ، وَظَاهِرُ سِيَاقِ الْآيَةِ أَنَّهَا الْإِفَاضَةُ مِنْ مُزْدَلِفَةَ لِأَنَّهَا ذُكِرَتْ بِلَفْظَةِ ثُمَّ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَمْرِ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ. وَأَجَابَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ الَّتِي سِيقَتْ بِلَفْظِ الْخَبَرِ لِمَا وَرَدَ مِنْهُ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي تُشْرَعُ الْإِفَاضَةُ مِنْهُ فَالتَّقْدِيرُ فَإِذَا أَفَضْتُمُ اذْكُرُوا ثُمَّ لِتَكُنْ إِفَاضَتُكُمْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ لَا مِنْ حَيْثُ كَانَ الْحُمْسُ يُفِيضُونَ أَوِ التَّقْدِيرُ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَهُ وَلْتَكُنْ إِفَاضَتُكُمْ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي يُفِيضُ فِيهِ النَّاسُ غَيْرُ الْحُمْسِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي:
قَوْلُهُ: (قَالَ عُرْوَةُ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ فَذَكَرَهُ.
قَوْلُهُ: (وَالْحُمْسُ قُرَيْشٌ وَمَا وَلَدَتْ) زَادَ مَعْمَرٌ وَكَانَ مِمَّنْ وَلَدَتْ قُرَيْشٌ خُزَاعَةُ وَبَنُو كِنَانَةَ وَبَنُو عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَثَرِ مُجَاهِدٍ أَنَّ مِنْهُمْ أَيْضًا غَزْوَانَ وَغَيْرَهُمْ، وَذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِهِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ إِذَا خَطَبَ إِلَيْهِمُ الْغَرِيبُ اشْتَرَطُوا عَلَيْهِ أَنَّ وَلَدَهَا عَلَى دِينِهِمْ فَدَخَلَ فِي الْحُمْسِ مِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ ثَقِيفٌ وَلَيْثٌ وَخُزَاعَةُ وَبَنُو عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ يَعْنِي وَغَيْرَهُمْ. وَعُرِفَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْقَبَائِلِ مَنْ كَانَتْ لَهُ مِنْ أُمَّهَاتِهِ قُرَيْشِيَّةٌ لَا جَمِيعُ الْقَبَائِلِ الْمَذْكُورَةِ.
قَوْلُهُ: (فَأَخْبَرَنِي أَبِي) الْقَائِلُ هُوَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ وَالْمَوْصُولُ مِنَ الْحَدِيثِ هَذَا الْقَدْرُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَتَمُّ مِنْ هَذَا. وَقَوْلُهُ فَدَفَعُوا إِلَى عَرَفَاتٍ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَرَفَعُوا بِالرَّاءِ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ رَجَعُوا إِلَى عَرَفَاتٍ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أُمِرُوا أَنْ يَتَوَجَّهُوا إِلَى عَرَفَاتٍ لِيَقِفُوا بِهَا ثُمَّ يُفِيضُوا مِنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي طَرِيقِ جُبَيْرٍ سَبَبُ امْتِنَاعِهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قِصَّةِ الطَّوَافِ عُرْيَانًا فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ وَعُرِفَ بِرِوَايَةِ عَائِشَةَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿أَفِيضُوا﴾ النَّبِيُّ ﷺ وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ كَانَ لَا يَقِفُ بِعَرَفَةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ هُنَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ ﵇، وَعَنْهُ الْمُرَادُ بِهِ الْإِمَامُ، وَعَنْ غَيْرِهِ آدَمُ، وَقُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ: النَّاسِي بِكَسْرِ السِّينِ بِوَزْنِ الْقَاضِي، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. نَعَمِ، الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ مَوْرُوثٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ كَمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ شَيْبَانَ، قَالَ: كُنَّا وُقُوفًا بِعَرَفَةَ، فَأَتَانَا ابْنُ مريعٍ فَقَالَ: إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، يَقُولُ لَكُمْ: كُونُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ، فَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْثٍ مِنْ إِرْثِ إِبْرَاهِيمَ، الْحَدِيثَ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ خَاصَّةً بِقَوْلِهِ: ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ بَلْ هُوَ الْأَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَالسَّبَبُ فِيهِ مَا حَكَتْهُ عَائِشَةُ ﵂.
وَأَمَّا الْإِتْيَانُ فِي الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: (ثُمَّ) فَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ، وَقِيلَ: لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ، لَا لِمَحْضِ التَّرْتِيبِ، وَالْمَعْنَى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، ثُمَّ اجْعَلُوا الْإِفَاضَةَ الَّتِي تُفِيضُونَهَا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، لَا مِنْ حَيْثُ كُنْتُمْ تُفِيضُونَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَوْقِعُ (ثُمَّ) هُنَا مَوْقِعُهَا مِنْ قَوْلِكَ أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ، ثُمَّ لَا تُحْسِنْ إِلَى غَيْرِ كَرِيمٍ. فَتَأْتِي (ثُمَّ) لِتَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْإِحْسَانِ إِلَى الْكَرِيمِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى غَيْرِهِ، فَكَذَلِكَ حِينَ أَمَرَهُمْ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ بَيَّنَ لَهُمْ مَكَانَ الْإِفَاضَةِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute