أَيْ وَقَفَ مُتَلَبِّسًا بِهَذَا الْكَلَامِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ يَقُولُ إِنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ بَرَاءَةُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (فَطَفِقَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ بَيْنَ قَوْلِهِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فَطَفِقَ مِنَ الزِّيَادَةِ: وَدِمَاؤُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ وَأَعْرَاضُكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ هَذَا الْبَلَدِ فِي هَذَا الْيَوْمِ. وَقَدْ وَقَعَ مَعْنَى ذَلِكَ فِي طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (فَوَدَّعَ النَّاسَ) وَقَعَ فِي طَرِيقِ ضَعِيفَةٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ سَبَبُ ذَلِكَ وَلَفْظُهُ: أُنْزِلَتْ: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَعَرَفَ أَنَّهُ الْوَدَاعُ، فَأَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ فَرَكِبَ، فَوَقَفَ بِالْعَقَبَةِ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دِلَالَةٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْخُطْبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَخَالَفَ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ قَالُوا: خُطَبُ الْحَجِّ ثَلَاثَةٌ، سَابِعُ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَوْمُ عَرَفَةَ، وَثَانِي يَوْمِ النَّحْرِ بِمِنًى. وَوَافَقَهُمُ الشَّافِعِيُّ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ بَدَلَ ثَانِي النَّحْرِ: ثَالِثَهُ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ النَّفْرِ، وَزَادَ خُطْبَةً رَابِعَةً وَهِيَ يَوْمُ النَّحْرِ، وَقَالَ: إِنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إِلَيْهَا لِيَتَعَلَّمُوا أَعْمَالَ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الرَّمْيِ وَالذَّبْحِ وَالْحَلْقِ وَالطَّوَافِ. وَتَعَقَّبَهُ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّ الْخُطْبَةَ الْمَذْكُورَةَ لَيْسَتْ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الْحَجِّ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِيهَا وَصَايَا عَامَّةً، وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ عَلَّمَهُمْ فِيهَا شَيْئًا مِنَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِيَوْمِ النَّحْرِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهَا لَمْ تُقْصَدْ لِأَجْلِ الْحَجِّ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ تَبْلِيغِ مَا ذَكَرَهُ لِكَثْرَةِ الْجَمْعِ الَّذِي اجْتَمَعَ مِنْ أَقَاصِي الدُّنْيَا، فَظَنَّ الَّذِي رَآهُ أَنَّهُ خَطَبَ، قَالَ: وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إِلَى تَعْلِيمِهِمْ أَسْبَابَ التَّحَلُّلِ الْمَذْكُورَةَ فَلَيْسَ بِمُتَعَيِّنٍ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ إِيَّاهَا يَوْمَ عَرَفَةَ اهـ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ نَبَّهَ ﷺ فِي الْخُطْبَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى تَعْظِيمِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَعَلَى تَعْظِيمِ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَعَلَى تَعْظِيمِ الْبَلَدِ الْحَرَامِ، وَقَدْ جَزَمَ الصَّحَابَةُ الْمَذْكُورُونَ بِتَسْمِيَتِهَا خُطْبَةً، فَلَا يُلْتَفَتُ لِتَأْوِيلِ غَيْرِهِمْ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ إِمْكَانِ تَعْلِيمِ مَا ذُكِرَ يَوْمَ عَرَفَةَ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ فِي كَوْنِهِ يَرَى مَشْرُوعِيَّةَ الْخُطْبَةِ ثَانِيَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُعَلَّمُوا ذَلِكَ يَوْمَ عَرَفَةَ، بَلْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُعَلَّمُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ جَمِيعَ مَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَعْمَالٌ لَيْسَتْ فِي غَيْرِهِ شُرِعَ تَجْدِيدُ التَّعْلِيمِ بِحَسَبِ تَجْدِيدِ الْأَسْبَابِ، وَقَدْ بَيَّنَ الزُّهْرِيُّ - وَهُوَ عَالِمُ أَهْلِ زَمَانِهِ - أَنَّ الْخُطْبَةَ ثَانِي يَوْمِ النَّحْرِ نُقِلَتْ مِنْ خُطْبَةِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْأُمَرَاءِ، يَعْنِي مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ. قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ، فَشُغِلَ الْأُمَرَاءُ فَأَخَّرُوهُ إِلَى الْغَدِ.
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا لَكِنَّهُ يَعْتَضِدُ بِمَا سَبَقَ، وَبَانَ بِهِ أَنَّ السُّنَّةَ الْخُطْبَةُ يَوْمَ النَّحْرِ لَا ثَانِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ إِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ عَلَّمَهُمْ شَيْئًا مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ فَلَا يَنْفِي وُقُوعَ ذَلِكَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ ﷺ يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَذَكَرَ فِيهِ السُّؤَالَ عَنْ تَقَدُّمِ بَعْضِ الْمَنَاسِكِ عَلَى بَعْضٍ، فَكَيْفَ سَاغَ لِلطَّحَاوِيِّ هَذَا النَّفْيُ الْمُطْلَقُ مَعَ رِوَايَتِهِ هُوَ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَثَبَتَ أَيْضًا فِي بَعْضِ طُرُقِ أَحَادِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ ﷺ قَالَ لِلنَّاسِ حِينَئِذٍ: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ. فَكَأَنَّهُ وَعَظَهُمْ بِمَا وَعَظَهُمْ بِهِ وَأَحَالَ فِي تَعْلِيمِهِمْ عَلَى تَلَقِّي ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِهِ. وَمِمَّا يُرَدُّ بِهِ عَلَى تَأْوِيلِ الطَّحَاوِيِّ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ بِعَرَفَاتٍ: أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا الْحَدِيثَ، وَنَحْوُهُ لِلطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ نُبَيْطِ بْنِ شَرِيطٍ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ ﷺ وَاقِفًا بِعَرَفَةَ عَلَى بَعِيرٍ أَحْمَرَ يَخْطُبُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَيُّ يَوْمٍ أَحْرَمُ؟ قَالُوا: هَذَا الْيَوْمُ.
قَالَ: فَأَيُّ بَلَدٍ أَحْرَمُ؟
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute