لَحْمِهَا، وَقَالُوا: أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ؟ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِ الْأَتَانِ، فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا أَحْرَمْنَا، وَقَدْ كَانَ أَبُو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ، فَرَأَيْنَا حُمُرَ وَحْشٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَبُو قَتَادَةَ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا، فَنَزَلْنَا فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا، ثُمَّ قُلْنَا: أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ؟ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا. قَالَ: أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا.
قَوْلُهُ: (بَابٌ: لَا يُشِيرُ الْمُحْرِمُ إِلَى الصَّيْدِ لِكَيْ يَصْطَادَهُ الْحَلَالُ) أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إِلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِوُجُوبِ الْجَزَاءِ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ: فَاتَّفَقُوا - كَمَا تَقَدَّمَ - عَلَى تَحْرِيمِ الْإِشَارَةِ إِلَى الصَّيْدِ لِيُصْطَادَ، وَعَلَى سَائِرِ وُجُوهِ الدَّلَالَاتِ عَلَى الْمُحْرِمِ، لَكِنْ قَيَّدَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِمَا إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الِاصْطِيَادُ بِدُونِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُحْرِمِ إِذَا دَلَّ الْحَلَالُ عَلَى الصَّيْدِ بِإِشَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ، فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: يَضْمَنُ الْمُحْرِمُ ذَلِكَ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ دَلَّ الْحَلَالُ حَلَالًا عَلَى قَتْلِ صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ. قَالُوا: وَلَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الْإِعَانَةِ وَالْإِشَارَةِ إِنَّمَا وَقَعَ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ هَلْ يَحِلُّ لَهُمْ أَكْلُهُ أَوْ لَا؟ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ الْجَزَاءِ. وَاحْتَجَّ الْمُوَفَّقُ بِأَنَّهُ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا نَعْلَمُ لَهُمَا مُخَالِفًا مِنَ الصَّحَابَةِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي ثُبُوتِهِ عَنْ عَلِيٍّ نَظَرٌ، وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ انْفَرَدَ بِقَتْلِهِ بِاخْتِيَارِهِ مَعَ انْفِصَالِ الدَّالِّ عَنْهُ، فَصَارَ كَمَنْ دَلَّ مُحْرِمًا أَوْ صَائِمًا عَلَى امْرَأَةٍ فَوَطِئَهَا فَإِنَّهُ يَأْثَمُ بِالدَّلَالَةِ وَلَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ وَلَا يُفْطِرُ بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ هُوَ ابْنُ مَوْهَبٍ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَمَوْهَبٌ جَدُّهُ، وَهُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّيْمِيُّ، مَدَنِيٌّ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ، رَوَى هُنَا عَنْ تَابِعِيٍّ أَكْبَرَ مِنْهُ قَلِيلًا.
قَوْلُهُ: (خَرَجَ حَاجًّا) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: هَذَا غَلَطٌ، فَإِنَّ الْقِصَّةَ كَانَتْ فِي عُمْرَةٍ، وَأَمَّا الْخُرُوجُ إِلَى الْحَجِّ فَكَانَ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ، وَكَانَ كُلُّهُمْ عَلَى الْجَادَّةِ لَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ. وَلَعَلَّ الرَّاوِيَ أَرَادَ: خَرَجَ مُحْرِمًا، فَعَبَّرَ عَنِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ غَلَطًا. قُلْتُ: لَا غَلَطَ فِي ذَلِكَ، بَلْ هُوَ مِنَ الْمَجَازِ السَّائِغِ. وَأَيْضًا فَالْحَجُّ فِي الْأَصْلِ قَصْدُ الْبَيْتِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: خَرَجَ قَاصِدًا لِلْبَيْتِ، وَلِهَذَا يُقَالُ لِلْعُمْرَةِ: الْحَجُّ الْأَصْغَرُ. ثُمَّ وَجَدْتُ الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدِّمِيِّ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ بِلَفْظِ: خَرَجَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الشَّكَّ فِيهِ مِنْ أَبِي عَوَانَةَ، وَقَدْ جَزَمَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا أَبَا قَتَادَةَ) كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ، وَلِغَيْرِهِ إِلَّا أَبُو قَتَادَةَ بِالرَّفْعِ، وَوَقَعَ بِالنَّصْبِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي التَّوْضِيحِ: حَقُّ الْمُسْتَثْنَى بِإِلَّا مِنْ كَلَامٍ تَامٍّ مُوجَبٍ أَنْ يُنْصَبَ مُفْرَدًا كَانَ أَوْ مُكَمَّلًا مَعْنَاهُ بِمَا بَعْدَهُ، فَالْمُفْرَدُ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ﴾ وَالْمُكَمَّلُ نَحْوَ: ﴿إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ﴾ وَلَا يَعْرِفُ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ فِي هَذَا النَّوْعِ إِلَّا النَّصْبَ، وَقَدْ أَغْفَلُوا وُرُودَهُ مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ مَعَ ثُبُوتِ الْخَبَرِ وَمَعَ حَذْفِهِ، فَمِنْ أَمْثِلَةِ الثَّابِتِ الْخَبَرِ قَوْلُ أَبِي قَتَادَةَ: أَحْرَمُوا كُلُّهُمْ إِلَّا أَبُو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ فَـ إِلَّا بِمَعْنَى لَكِنْ، وَأَبُو قَتَادَةَ مُبْتَدَأٌ وَلَمْ يُحْرِمْ خَبَرُهُ، وَنَظِيرُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ﴾ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ امْرَأَتَكَ بَدَلًا مِنْ أَحَدٍ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَسِرْ مَعَهُمْ فَيَتَضَمَّنُهَا ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِينَ. وَتَكَلَّفَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَسِرْ بِهَا لَكِنَّهَا شَعَرَتْ بِالْعَذَابِ فَتَبِعَتْهُمْ ثُمَّ الْتَفَتَتْ فَهَلَكَتْ.
قَالَ: وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ لَا يُوجِبُ دُخُولَهَا فِي الْمُخَاطَبِينَ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمَحْذُوفِ الْخَبَرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute