رَدَّهُ عَلَيْهِ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِجُمْلَتِهِ، فَأَعْلَمَهُ بِامْتِنَاعِهِ أَنَّ حُكْمَ الْجُزْءِ مِنَ الصَّيْدِ حُكْمُ الْكُلِّ، قَالَ: وَالْجَمْعُ مَهْمَا أَمْكَنَ أَوْلَى مِنْ تَوْهِيمِ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ بِكَوْنِ الْحِمَارِ حَيًّا، وَلَيْسَ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ، وَكَذَا نَقَلُوا هَذَا التَّأْوِيلَ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ مَذْبُوحٌ. انْتَهَى.
وَإِذَا تَأَمَّلْتَ مَا تَقَدَّمَ لَمْ يَحْسُنْ إِطْلَاقُهُ بُطْلَانَ التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ وَلَا سِيَّمَا فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ الَّتِي هِيَ عُمْدَةُ هَذَا الْبَابِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: حَدِيثُ مَالِكٍ أَنَّ الصَّعْبَ أَهْدَى حِمَارًا أَثْبَتُ مِنْ حَدِيثِ مَنْ رَوَى أَنَّهُ أَهْدَى لَحْمَ حِمَارٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: رَوَى بَعْضُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ فِي حَدِيثِ الصَّعْبِ: لَحْمَ حِمَارِ وَحْشٍ وَهُوَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ.
قَوْلُهُ: (بِالْأَبْوَاءِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالْمَدِّ: جَبَلٌ مِنْ عَمَلِ الْفُرُعِ بِضَمِّ الْفَاءِ وَالرَّاءِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ، قِيلَ: سُمِّيَ الْأَبْوَاءُ لِوَبَائِهِ عَلَى الْقَلْبِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ السُّيُولَ تَتَبَوَّؤُهُ، أَيْ: تحمله.
قَوْلُهُ: (أَوْ بِوَدَّانَ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَهُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ وَآخِرَهَا نُونٌ مَوْضِعٌ بِقُرْبِ الْجُحْفَةِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ كَانَ بِالْجُحْفَةِ، وَوَدَّانُ أَقْرَبُ إِلَى الْجُحْفَةِ مِنَ الْأَبْوَاءِ فَإِنَّ مِنَ الْأَبْوَاءِ إِلَى الْجُحْفَةِ لِلْآتِي مِنَ الْمَدِينَةِ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ مِيلًا، وَمِنْ وَدَّانَ إِلَى الْجُحْفَةِ ثَمَانِيَةَ أَمْيَالٍ، وَبِالشَّكِّ جَزَمَ أَكْثَرُ الرُّوَاةِ، وَجَزَمَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِوَدَّانَ، وَجَزَمَ مَعْمَرٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو بِالْأَبْوَاءِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الشَّكَّ فِيهِ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّ الطَّبَرَانِيَّ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنْهُ عَلَى الشَّكِّ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: فَلَمَّا عَرَفَ فِي وَجْهِي رَدَّهُ هَدِيَّتِي. وَفِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ مِنَ الْكَرَاهِيَةِ وَكَذَا لِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ الْمَذْكُورَةِ.
قَوْلُهُ: (إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ: لَيْسَ بِنَا رَدٌّ عَلَيْكَ وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ كَرَاهِيَةً لَهُ، وَلَكِنَّا حُرُمٌ. قَالَ عِيَاض: ضَبَطْنَاهُ فِي الرِّوَايَاتِ: لَمْ نَرُدَّهُ بِفَتْحِ الدَّالِ، وَأَبَى ذَلِكَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَالُوا: الصَّوَابُ أَنَّهُ بِضَمِّ الدَّالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَاعَفَ مِنَ الْمَجْزُومِ يُرَاعَى فِيهِ الْوَاوُ الَّتِي تُوجِبُهَا لَهُ ضَمَّةُ الْهَاءِ بَعْدَهَا. قَالَ: وَلَيْسَ الْفَتْحُ بِغَلَطٍ، بَلْ ذَكَرَهُ ثَعْلَبٌ فِي الْفَصِيحِ. نَعَمْ تَعَقَّبُوهُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ، وَأَوْهَمَ صَنِيعُهُ أَنَّهُ فَصِيحٌ، وَأَجَازُوا أَيْضًا الْكَسْرَ وَهُوَ أَضْعَفُ الْأَوْجُهِ. قُلْتُ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِفَكِّ الْإِدْغَامِ لَمْ نَرْدُدْهُ بِضَمِّ الْأُولَى وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ) زَادَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنَدَ النَّسَائِيِّ: لَا نَأْكُلُ الصَّيْدَ، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَوْلَا أَنَّا مُحْرِمُونَ لَقَبِلْنَاهُ مِنْكَ وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ اقْتَصَرَ فِي التَّعْلِيلِ عَلَى كَوْنِهِ مُحْرِمًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ سَبَبُ الِامْتِنَاعِ خَاصَّةً، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَاللَّيْثِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، لِحَدِيثِ الصَّعْبِ هَذَا، وَلِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ: أَنَّهُ قَالَ لِنَاسٍ مِنْ أَشْجَعَ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أُهْدِيَ لَهُ رِجْلُ حِمَارِ وَحْشٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ لَكِنْ يُعَارِضُ هَذَا الظَّاهِرَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ طَلْحَةَ أَنَّهُ: أُهْدِيَ لَهُ لَحْمُ طَيْرٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَوَقَفَ مَنْ أَكَلَهُ وَقَالَ: أَكَلْنَاهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، وَحَدِيثُ عُمَيْرِ بْنِ سَلَمَةَ: أَنَّ الْبَهْزِيَّ أَهْدَى لِلنَّبِيِّ ﷺ ظَبْيًا وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يَقْسِمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ، أَخْرَجَهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ، وَبِالْجَوَازِ مُطْلَقًا، قَالَ الْكُوفِيُّونَ وَطَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ، وَجَمَعَ الْجُمْهُورُ بَيْنَ مَا اخْتَلَفَ مِنْ ذَلِكَ بِأَنَّ أَحَادِيثَ الْقَبُولِ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا يَصِيدُهُ الْحَلَالُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ يُهْدِي مِنْهُ لِلْمُحْرِمِ، وَأَحَادِيثُ الرَّدِّ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا صَادَهُ الْحَلَالُ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ. قَالُوا: وَالسَّبَبُ فِي الِاقْتِصَارِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute