الْآيَةَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الدَّوَابِّ الْخَمْسِ الْغُرَابَ وَالْحِدَأَةَ، وَيَدُلُّ عَلَى دُخُولِ الطَّيْرِ أَيْضًا عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا﴾ الْآيَةَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي صِفَةِ بَدْءِ الْخَلْقِ: وَخَلَقَ الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَلَمْ يُفْرِدِ الطَّيْرَ بِذِكْرٍ. وَقَدْ تَصَرَّفَ أَهْلُ الْعُرْفِ فِي الدَّابَّةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَخُصُّهَا بِالْحِمَارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخُصُّهَا بِالْفَرَسِ، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ تَظْهَرُ فِي الْحَلِفِ.
قَوْلُهُ: (كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ يُقْتَلْنَ) قِيلَ: فَاسِقٌ صِفَةٌ لِـ كُلٍّ، وَفِي يُقْتَلْنَ ضَمِيرٌ رَاجَعٌ إِلَى مَعْنَى كُلٍّ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: كُلُّهَا فَوَاسِقُ. وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ الَّتِي فِي بَدْءِ الْخَلْقِ: خَمْسُ فَوَاسِقَ قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِإِضَافَةِ خَمْسٍ لَا بِتَنْوِينِهِ، وَجَوَّزَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ الْوَجْهَيْنِ وَأَشَارَ إِلَى تَرْجِيحِ الثَّانِي، فَإِنَّهُ قَالَ: رِوَايَةُ الْإِضَافَةِ تُشْعِرُ بِالتَّخْصِيصِ فَيُخَالِفُهَا غَيْرُهَا فِي الْحُكْمِ مِنْ طَرِيقِ الْمَفْهُومِ، وَرِوَايَةُ التَّنْوِينِ تَقْتَضِي وَصْفَ الْخَمْسِ بِالْفِسْقِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَيُشْعِرُ بِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ - وَهُوَ الْقَتْلُ - مُعَلَّلٌ بِمَا جُعِلَ وَصْفًا وَهُوَ الْفِسْقُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ فَاسِقٍ مِنَ الدَّوَابِّ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ يُونُسَ الَّتِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ. قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: تَسْمِيَةُ هَذِهِ الْخَمْسِ فَوَاسِقَ تَسْمِيَةٌ صَحِيحَةٌ جَارِيَةٌ فِي وَفْقِ اللُّغَةِ، فَإِنَّ أَصْلَ الْفِسْقِ لُغَةً: الْخُرُوجُ، وَمِنْهُ فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ إِذَا خَرَجَتْ عَنْ قِشْرِهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ أَيْ: خَرَجَ، وَسُمِّيَ الرَّجُلُ فَاسِقًا لِخُرُوجِهِ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ، فَهُوَ خُرُوجٌ مَخْصُوصٌ. وَزَعَمَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا شِعْرِهِمْ فَاسِقٌ، يَعْنِي: بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فِي وَصْفِ الدَّوَابِّ الْمَذْكُورَةِ بِالْفِسْقِ فَقِيلَ: لِخُرُوجِهَا عَنْ حُكْمِ غَيْرِهَا مِنَ الْحَيَوَانِ فِي تَحْرِيمِ قَتْلِهِ، وَقِيلَ: فِي حِلِّ أَكْلِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾
وَقَوْلِهِ: ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ وَقِيلَ: لِخُرُوجِهَا عَنْ حُكْمِ غَيْرِهَا بِالْإِيذَاءِ وَالْإِفْسَادِ وَعَدَمِ الِانْتِفَاعِ، وَمِنْ ثَمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْفَتْوَى: فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ أَلْحَقَ بِالْخَمْسِ كُلَّ مَا جَازَ قَتْلُهُ لِلْحَلَالِ فِي الْحَرَمِ وَفِي الْحِلِّ، وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي أَلْحَقَ مَا لَا يُؤْكَلُ إِلَّا مَا نُهِيَ عَنْ قَتْلِهِ، وَهَذَا قَدْ يُجَامِعُ الْأَوَّلَ، وَمَنْ قَالَ بِالثَّالِثِ يَخُصُّ الْإِلْحَاقَ بِمَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْإِفْسَادُ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: قِيلَ لَهُ: لِمَ قِيلَ لِلْفَأْرَةِ: فُوَيْسِقَةٌ؟ فَقَالَ: لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَيْقَظَ لَهَا وَقَدْ أَخَذَتِ الْفَتِيلَةَ لِتُحْرِقَ بِهَا الْبَيْتَ.
فَهَذَا يُومِئُ إِلَى أَنَّ سَبَبَ تَسْمِيَةِ الْخَمْسِ بِذَلِكَ لِكَوْنِ فِعْلِهَا يُشْبِهُ فِعْلَ الْفُسَّاقِ، وَهُوَ يُرَجِّحُ الْقَوْلَ الْأَخِيرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ) تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ نَافِعٍ بِلَفْظِ: لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ وَعُرِفَ بِذَلِكَ أَنْ لَا إِثْمَ فِي قَتْلِهَا عَلَى الْمُحْرِمِ وَلَا فِي الْحَرَمِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ ذَلِكَ لِلْحَلَالِ، وَفِي الْحِلِّ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى. وَقَدْ وَقَعَ ذِكْرُ الْحِلِّ صَرِيحًا عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بِلَفْظِ: يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ وَيُعْرَفُ حُكْمُ الْحَلَالِ بِكَوْنِهِ لَمْ يَقُمْ بِهِ مَانِعٌ، وَهُوَ الْإِحْرَامُ، فَهُوَ بِالْجَوَازِ أَوْلَى، ثُمَّ إِنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْيِ الْجُنَاحِ - وَكَذَا الْحَرَجُ فِي طَرِيقِ سَالِمٍ - دَلَالَةٌ عَلَى أَرْجَحِيَّةِ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ، لَكِنْ وَرَدَ فِي طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: أَمَرَ وَكَذَا فِي طَرِيقِ مَعْمَرٍ، وَلِأَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ: ليقتل المحرم وظاهر الأمر الوجوب، ويحتمل النَّدْبُ وَالْإِبَاحَةُ، وَرَوَى الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي صَلَاتِهِ إِذْ ضَرَبَ شَيْئًا، فَإِذَا هِيَ عَقْرَبٌ فَقَتَلَهَا، وَأَمَرَ بِقَتْلِ الْعَقْرَبِ وَالْحَيَّةِ وَالْفَأْرَةِ وَالْحِدَأَةِ لِلْمُحْرِمِ، لَكِنَّ هَذَا الْأَمْرَ وَرَدَ بَعْدَ الْحَظْرِ لِعُمُومِ نَهْيِ الْمُحْرِمِ عَنِ الْقَتْلِ فَلَا يَكُونُ لِلْوُجُوبِ وَلَا لِلنَّدْبِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ رِوَايَةُ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ: أَذِنَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، لَكِنْ لَمْ يَسُقْ مُسْلِمٌ لَفْظَهُ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ: خَمْسٌ قَتْلُهُنَّ حَلَالٌ لِلْمُحْرِمِ.
قَوْلُهُ: (الْغُرَابُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute