أَصْلُهُ ائْذَنْ بِهَمْزَتَيْنِ فَقُلِبَتِ الثَّانِيَةُ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا.
قَوْلُهُ: (أَيُّهَا الْأَمِيرُ) الْأَصْلُ فِيهِ يَا أَيُّهَا الْأَمِيرُ فَحَذَفَ حَرْفَ النِّدَاءِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ حُسْنُ التَّلَطُّفِ فِي مُخَاطَبَةِ السُّلْطَانِ لِيَكُونَ أَدْعَى لِقَبُولِهِمُ النَّصِيحَةَ، وَأَنَّ السُّلْطَانَ لَا يُخَاطَبُ إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِي أَمْرٍ يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَيْهِ، فَتَرْكُ ذَلِكَ وَالْغِلْظَةُ لَهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِإِثَارَةِ نَفْسِهِ وَمُعَانَدَةِ مَنْ يُخَاطِبُهُ، وَسَيَأْتِي فِي الْحُدُودِ قَوْلُ وَالِدِ الْعَسِيفِ: وَائْذَنْ لِي.
قَوْلُهُ: (قَامَ بِهِ) صِفَةٌ لِلْقَوْلِ، وَالْمَقُولُ هُوَ حَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى. . . إِلَخْ.
وَقَوْلُهُ: الْغَدَ بِالنَّصْبِ أَيْ: ثَانِيَ يَوْمِ الْفَتْحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
قَوْلُهُ: (سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ. . . إِلَخْ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بَيَانِ حِفْظِهِ لَهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، فَقَوْلُهُ: سَمِعَتْهُ أَيْ: حَمَلَتْهُ عَنْهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَذِكْرُ الْأُذُنَيْنِ لِلتَّأْكِيدِ، وَقَوْلُهُ: وَوَعَاهُ قَلْبِي تَحْقِيقٌ لِفَهْمِهِ وَتَثَبُّتِهِ، وَقَوْلُهُ: وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ زِيَادَةٌ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ، وَأَنَّ سَمَاعَهُ مِنْهُ لَيْسَ اعْتِمَادًا عَلَى الصَّوْتِ فَقَطْ بَلْ مَعَ الْمُشَاهَدَةِ، وَقَوْلُهُ: حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ أَيْ: بِالْقَوْلِ الْمَذْكُورِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: وَوَعَاهُ قَلْبِي أَنَّ الْعَقْلَ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ.
قَوْلُهُ: (إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ) هُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ تَكَلَّمَ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ اسْتِحْبَابُ الثَّنَاءِ بَيْنَ يَدَيْ تَعْلِيمِ الْعِلْمِ وَتَبْيِينِ الْأَحْكَامِ، وَالْخُطْبَةُ فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: أَمَّا بَعْدُ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ) أَيْ: حَكَمَ بِتَحْرِيمِهَا وَقَضَاهُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي مَكَّةَ أَنْ لَا يُقَاتَلَ أَهْلُهَا وَيُؤَمَّنَ مَنِ اسْتَجَارَ بِهَا وَلَا يُتَعَرَّضَ لَهُ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ وَقَوْلِهِ: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا﴾ وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ الْآتِي فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: أنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِاجْتِهَادِهِ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ قَضَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ سَيُحَرِّمُ مَكَّةَ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ تَحْرِيمَهَا بَيْنَ النَّاسِ، وَكَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ حَرَامًا، أَوْ أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَهُ بَعْدَ الطُّوفَانِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يُنْسَبُ لِأَحَدٍ وَلَا لِأَحَدٍ فِيهِ مَدْخَلٌ، قَالَ: وَلِأَجْلِ هَذَا أَكَّدَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ أَنَّ تَحْرِيمَهَا ثَابِتٌ بِالشَّرْعِ لَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِيهِ، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهَا مِنْ مُحَرَّمَاتِ اللَّهِ فَيَجِبُ امْتِثَالُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ مِنْ مُحَرَّمَاتِ النَّاسِ يَعْنِي: فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا حَرَّمُوا أَشْيَاءَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ فَلَا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِي تَرْكِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ حُرْمَتَهَا مُسْتَمِرَّةٌ مِنْ أَوَّلِ الْخَلْقِ، وَلَيْسَ مِمَّا اخْتُصَّتْ بِهِ شَرِيعَةُ النَّبِيِّ ﷺ.
قَوْلُهُ: (فَلَا يَحِلُّ. . . إِلَخْ) فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الِامْتِثَالِ؛ لِأَنَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ لَزِمَتْهُ طَاعَتُهُ، وَمَنْ آمَنَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ لَزِمَهُ امْتِثَالُ مَا أَمَرَ بِهِ وَاجْتِنَابُ مَا نَهَى عَنْهُ خَوْفَ الْحِسَابِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ خِلَافُهُ، وَجَوَابُهُمْ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ هُوَ الَّذِي يَنْقَادُ لِلْأَحْكَامِ وَيَنْزَجِرُ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَجَعَلَ الْكَلَامَ مَعَهُ وَلَيْسَ فِيهِ نَفْيُ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ مِنْ خِطَابِ التَّهْيِيجِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ فَالْمَعْنَى أَنَّ اسْتِحْلَالَ هَذَا الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا يَلِيقُ بِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بَلْ يُنَافِيهِ، فَهَذَا هُوَ الْمُقْتَضِي لِذِكْرِ هَذَا الْوَصْفِ، وَلَوْ قِيلَ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مُطْلَقًا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ هَذَا الْغَرَضُ وَإِنْ أَفَادَ التَّحْرِيمَ.
قَوْلُهُ: (أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا) تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ فِي الْعِلْمِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ بِمَكَّةَ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ بَابٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَةً) أَيْ: لَا يَقْطَعَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: أَصْحَابُ الْحَدِيثِ يَقُولُونَ: يَعْضُدَ بِضَمِّ الضَّادِ، وَقَالَ لَنَا ابْنُ الْخَشَّابِ هُوَ بِكَسْرِهَا، وَالْمِعْضَدُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ الْآلَةُ الَّتِي يُقْطَعُ بِهَا. قَالَ الْخَلِيلُ: الْمِعْضَدُ الْمُمْتَهَنُ مِنَ السُّيُوفِ فِي قَطْعِ الشَّجَرِ، وَقَالَ