فَإِنَّ هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا. قَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ. قَالَ: قَالَ: إِلَّا الْإِذْخِرَ.
قَوْلُهُ: (بَابٌ لَا يَحِلُّ الْقِتَالُ بِمَكَّةَ) هَكَذَا تَرْجَمَ بِلَفْظِ: الْقِتَالِ، وَهُوَ الْوَاقِعُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ كَذَلِكَ، وَفِي أُخْرَى بِلَفْظِ: الْقَتْلِ، بَدَلَ الْقِتَالِ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا اخْتِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو شُرَيْحٍ إِلَخْ) تَقَدَّمَ مَوْصُولًا قَبْلَ بَابٍ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ لِتَحْرِيمِ الْقِتَالِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقِتَالَ يُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ، فَقَدْ وَرَدَ تَحْرِيمُ سَفْكِ الدَّمِ بِهَا بِلَفْظِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ) كَذَا رَوَاهُ مَنْصُورٌ مَوْصُولًا، وَخَالَفَهُ الْأَعْمَشُ فَرَوَاهُ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مُرْسَلًا، أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ شَابُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مُرْسَلًا، وَمَنْصُورٌ ثِقَةٌ حَافِظٌ، فَالْحُكْمُ لِوَصْلِهِ.
قَوْلُهُ: (يَوْمَ افْتَتَحَ مَكَّةَ) هُوَ ظَرْفٌ لِلْقَوْلِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: (لَا هِجْرَةَ) أَيْ: بَعْدَ الْفَتْحِ، وَأَفْصَحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ جَرِيرٍ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ.
قَوْلُهُ: (وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ) الْمَعْنَى أَنَّ وُجُوبَ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ انْقَطَعَ بِفَتْحِهَا إِذْ صَارَتْ دَارَ إِسْلَامٍ، وَلَكِنْ بَقِيَ وُجُوبُ الْجِهَادِ عَلَى حَالِهِ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: (فَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا) أَيْ: إِذَا دُعِيتُمْ إِلَى الْغَزْوِ فَأَجِيبُوا. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: وَلَكِنْ جِهَادٌ عَطْفٌ عَلَى مَدْخُولِ لَا هِجْرَةَ أَيِ: الْهِجْرَةُ إِمَّا فِرَارًا مِنَ الْكُفَّارِ، وَإِمَّا إِلَى الْجِهَادِ، وَإِمَّا إِلَى نَحْوِ طَلَبِ الْعِلْمِ، وَقَدِ انْقَطَعَتِ الْأُولَى فَاغْتَنِمُوا الْأَخِيرَتَيْنِ، وَتَضَمَّنَ الْحَدِيثُ بِشَارَةً مِنَ النَّبِيِّ ﷺ بِأَنَّ مَكَّةَ تَسْتَمِرُّ دَارَ إِسْلَامٍ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْجِهَادِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّ هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَ) الْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: إِذَا عَلِمْتُمْ ذَلِكَ فَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَا بَلَدٌ حَرَامٌ، وَكَأَنَّ وَجْهَ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ نَصْبُ الْقِتَالِ عَلَيْهِ حَرَامًا كَانَ التَّنْفِيرُ يَقَعُ مِنْهُ لَا إِلَيْهِ، وَلَمَّا رَوَى مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ إِسْحَاقَ، عَنْ جَرِيرٍ فَصَلَ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ مِنَ الثَّانِي بِقَوْلِهِ: وَقَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ. . . إِلَخْ، فَجَعَلَهُ حَدِيثًا آخَرَ مُسْتَقِلًّا، وَهُوَ مُقْتَضَى صَنِيعِ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْكَلَامِ الْأَوَّلِ كَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ جَرِيرٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْجِهَادِ.
قَوْلُهُ: (حَرَّمَهُ اللَّهُ) سَبَقَ مَشْرُوحًا فِي حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: حَرَّمَ اللَّهُ بِحَذْفِ الْهَاءِ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ) أَيْ: بِتَحْرِيمِهِ، وَقِيلَ: الْحُرْمَةُ الْحَقُّ أَيْ: حَرَامٌ بِالْحَقِّ الْمَانِعِ مِنْ تَحْلِيلِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ بِالْحَرَمِ، فَأَمَّا الْقَتْلُ فَنَقَلَ بَعْضُهُمُ الِاتِّفَاقَ عَلَى جَوَازِ إِقَامَةِ حَدِّ الْقَتْلِ فِيهَا عَلَى مَنْ أَوْقَعَهُ فِيهَا، وَخَصَّ الْخِلَافَ بِمِنْ قَتَلَ فِي الْحِلِّ ثُمَّ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ، وَمِمَّنْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ بِهَا، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أُحِلَّتْ فِيهِ لِلنَّبِيِّ ﷺ كَمَا تَقَدَّمَ، وَزَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ مُقْتَضَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَتْلُ فِيهَا مُطْلَقًا، وَنَقَلَ التَّفْصِيلَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْتَلُ فِي الْحَرَمِ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى الْحِلِّ بِاخْتِيَارِهِ، لَكِنْ لَا يُجَالَسُ وَلَا يُكَلَّمُ، وَيُوعَظُ وَيُذَكَّرُ حَتَّى يَخْرُجَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُخْرَجُ مُضْطَرًّا إِلَى الْحِلِّ، وَفَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ أَصَابَ حَدًّا ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ لَمْ يُجَالَسْ وَلَمْ يُبَايَعْ وَعَنْ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ: يَجُوزُ إِقَامَةُ الْحَدِّ مُطْلَقًا فِيهَا؛ لِأَنَّ الْعَاصِيَ هَتَكَ حُرْمَةَ نَفْسِهِ فَأَبْطَلَ