مَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْأَمْنِ، وَأَمَّا الْقِتَالُ فَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: مِنْ خَصَائِصِ مَكَّةَ أَنْ لَا يُحَارَبَ أَهْلُهَا، فَلَوْ بَغَوْا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فَإِنْ أَمْكَنَ رَدُّهُمْ بِغَيْرِ قِتَالٍ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إِلَّا بِالْقِتَالِ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: يُقَاتَلُونَ؛ لِأَنَّ قِتَالَ الْبُغَاةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ إِضَاعَتُهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ، بَلْ يُضَيَّقُ عَلَيْهِمْ إِلَى أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى الطَّاعَةِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْأَوَّلُ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَأَجَابَ أَصْحَابُهُ عَنِ الْحَدِيثِ بِحَمْلِهِ عَلَى تَحْرِيمِ نَصْبِ الْقِتَالِ بِمَا يَعُمُّ أَذَاهُ كَالْمَنْجَنِيقِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ تَحَصَّنَ الْكُفَّارُ فِي بَلَدٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ قِتَالُهُمْ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلٌ آخَرُ بِالتَّحْرِيمِ اخْتَارَهُ الْقَفَّالُ وَجَزَمَ بِهِ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ وَقَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: مَنْ أَتَى حَدًّا فِي الْحِلِّ وَاسْتَجَارَ بِالْحَرَمِ فَلِلْإِمَامِ إِلْجَاؤُهُ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْصِبَ عَلَيْهِ الْحَرْبَ بَلْ يُحَاصِرَهُ وَيُضَيِّقَ عَلَيْهِ حَتَّى يُذْعِنَ لِلطَّاعَةِ، لِقَوْلِهِ ﷺ: وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِيَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، فَعُلِمَ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي حَلَّتْ لَهُ بِهِ وَهُوَ مُحَارَبَةُ أَهْلِهَا وَالْقَتْلُ فِيهَا. وَمَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى هَذَا، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: قَدْ أَكَّدَ النَّبِيُّ التَّحْرِيمَ بِقَوْلِهِ: حَرَّمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَمْ تَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَكَانَ إِذَا أَرَادَ التَّأْكِيدَ ذَكَرَ الشَّيْءَ ثَلَاثًا. قَالَ: فَهَذَا نَصٌّ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ ﷺ بِالْقِتَالِ؛ لِاعْتِذَارِهِ عَمَّا أُبِيحَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا إِذْ ذَاكَ مُسْتَحَقِّينَ لِلْقِتَالِ وَالْقَتْلِ؛ لِصَدِّهِمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجِهِمْ أَهْلَهُ مِنْهُ وَكُفْرِهِمْ، وَهَذَا الَّذِي فَهِمَهُ أَبُو شُرَيْحٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يَتَأَكَّدُ الْقَوْلُ بِالتَّحْرِيمِ بِأَنَّ الْحَدِيثَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمَأْذُونَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِيهِ لَمْ يُؤْذَنْ لِغَيْرِهِ فِيهِ، وَالَّذِي وَقَعَ لَهُ إِنَّمَا هُوَ مُطْلَقُ الْقِتَالِ لَا الْقِتَالَ الْخَاصَّ بِمَا يَعُمُّ كَالْمَنْجَنِيقِ، فَكَيْفَ يَسُوغُ التَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ؟ وَأَيْضًا فَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ لِإِظْهَارِ حُرْمَةِ الْبُقْعَةِ بِتَحْرِيمِ سَفْكِ الدِّمَاءِ فِيهَا، وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِمَا يُسْتَأْصَلُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْإِحْرَامِ عَلَى مَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: حَرَّمَهُ اللَّهُ أَيْ: يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِ الْمُحْرِمِ دُخُولُهُ حَتَّى يُحْرِمَ، وَيَجْرِي هَذَا مَجْرَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ أَيْ: وَطْؤُهُنَّ، وَ ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ أَيْ: أَكْلُهَا، فَعُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ. قَالَ: وَقَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى اعْتِذَارُهُ عَنْ دُخُولِهِ مَكَّةَ غَيْرَ مُحْرِمٍ مُقَاتِلًا بِقَوْلِهِ: لَمْ تَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ الْحَدِيثَ. قَالَ: وَبِهَذَا أَخَذَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمَا، وَمَنْ تَبِعَهُمَا فِي ذَلِكَ، فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ إِلَّا مُحْرِمًا، إِلَّا إِذَا كَانَ مِمَّنْ يُكْثِرُ التَّكْرَارَ. قُلْتُ: وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ بَعْدَ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ.
قَوْلُهُ: (وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْقِتَالُ) الْهَاءُ فِي أَنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: لَمْ يَحِلَّ بِلَفْظِ: لَمْ بَدَلَ لَا وَهِيَ أَشْبَهُ لِقَوْلِهِ: قَبْلِي.
قَوْلُهُ: (لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ) تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا) سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْخَلَا مَقْصُورٌ، وَذَكَرَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ بِالْمَدِّ، وَهُوَ الرَّطْبُ مِنَ النَّبَاتِ، وَاخْتِلَاؤُهُ قَطْعُهُ وَاحْتِشَاشُهُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ رَعْيِهِ لِكَوْنِهِ أَشَدَّ مِنَ الِاحْتِشَاشِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْكُوفِيُّونَ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِالرَّعْيِ لِمَصْلَحَةِ الْبَهَائِمِ وَهُوَ عَمَلُ النَّاسِ، بِخِلَافِ الِاحْتِشَاشِ فَإِنَّهُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، فَلَا يُتَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ. وَفِي تَخْصِيصِ التَّحْرِيمِ بِالرَّطْبِ إِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِ رَعْيِ الْيَابِسِ وَاخْتِلَائِهِ، وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ النَّبْتَ الْيَابِسَ كَالصَّيْدِ الْمَيِّتِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَكِنْ فِي اسْتِثْنَاءِ الْإِذْخِرِ إِشَارَةٌ إِلَى تَحْرِيمِ الْيَابِسِ مِنَ الْحَشِيشِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَلَا يُحْتَشُّ حَشِيشُهَا قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى إِبَاحَةِ أَخْذِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute