مَا اسْتَنْبَتَهُ النَّاسُ فِي الْحَرَمِ مِنْ بَقْلٍ وَزَرْعٍ وَمَشْمُومٍ فَلَا بَأْسَ بِرَعْيِهِ وَاخْتِلَائِهِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ الْعَبَّاسُ) أَيِ: ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَمَا وَقَعَ مُبَيَّنًا فِي الْمَغَازِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا الْإِذْخِرَ) يَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ، أَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى الْبَدَلِ مِمَّا قَبْلَهُ، وَأَمَّا النَّصْبُ فَلِكَوْنِهِ اسْتِثْنَاءً وَاقِعًا بَعْدَ النَّفْيِ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: الْمُخْتَارُ النَّصْبُ لِكَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ وَقَعَ مُتَرَاخِيًا عَنِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَبَعُدَتِ الْمُشَاكَلَةُ بِالْبَدَلِيَّةِ، وَلِكَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ أَيْضًا عَرَضَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ وَلَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا. وَالْإِذْخِرُ: نَبْتٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ طَيِّبُ الرِّيحِ لَهُ أَصْلٌ مُنْدَفِنٌ وَقُضْبَانٌ دِقَاقٌ، يَنْبُتُ فِي السَّهْلِ وَالْحَزَنِ، وَبِالْمَغْرِبِ صِنْفٌ مِنْهُ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ الْبَيْطَارِ، قَالَ: وَالَّذِي بِمَكَّةَ أَجْوَدُهُ، وَأَهْلُ مَكَّةَ يَسْقُفُونَ بِهِ الْبُيُوتَ بَيْنَ الْخَشَبِ وَيَسُدُّونَ بِهِ الْخَلَلَ بَيْنَ اللَّبِنَاتِ فِي الْقُبُورِ وَيَسْتَعْمِلُونَهُ بَدَلًا مِنَ الْحَلْفَاءِ فِي الْوَقُودِ، وَلِهَذَا قَالَ الْعَبَّاسُ: فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا نُونٌ، أَيِ: الْحَدَّادُ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْقَيْنُ عِنْدَ الْعَرَبِ كُلُّ ذِي صِنَاعَةٍ يُعَالِجُهَا بِنَفْسِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمَغَازِي: فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِلْقَيْنِ وَالْبُيُوتِ وَفِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الْبَابِ قَبْلَهُ: فَإِنَّهُ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا وَوَقَعَ فِي مُرْسَلِ مُجَاهِدٍ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ الْجَمْعُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، وَوَقَعَ عِنْدَهُ أَيْضًا: فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَا صَبْرَ لَهُمْ عَنِ الْإِذْخِرِ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ لَمْ يُرَدْ بِهِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ هُوَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنْ يُلَقِّنَ النَّبِيَّ ﷺ الِاسْتِثْنَاءَ، وَقَوْلُهُ ﷺ فِي جَوَابِهِ: إِلَّا الْإِذْخِرَ هُوَ اسْتِثْنَاءُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ لِدُخُولِ الْإِذْخِرِ فِي عُمُومِ مَا يُخْتَلَى.
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ، وَعَلَى جَوَازِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ اشْتِرَاطُ الِاتِّصَالِ إِمَّا لَفْظًا وَإِمَّا حُكْمًا؛ لِجَوَازِ الْفَصْلِ بِالتَّنَفُّسِ مَثَلًا، وَقَدِ اشْتُهِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْجَوَازُ مُطْلَقًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْتَجَّ لَهُ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَأَجَابُوا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ فِي حُكْمِ الْمُتَّصِلِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ﷺ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: إِلَّا الْإِذْخِرَ فَشَغَلَهُ الْعَبَّاسُ بِكَلَامِهِ، فَوَصَلَ كَلَامَهُ بِكَلَامِ نَفْسِهِ فَقَالَ: إِلَّا الْإِذْخِرَ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: يَجُوزُ الْفَصْلِ مَعَ إِضْمَارِ الِاسْتِثْنَاءِ مُتَّصِلًا بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَاخْتَلَفُوا: هَلْ كَانَ قَوْلُهُ ﷺ: إِلَّا الْإِذْخِرَ بِاجْتِهَادٍ أَوْ وَحْيٍ؟ وَقِيلَ: كَأَنَ اللَّهَ فَوَّضَ لَهُ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُطْلَقًا. وَقِيلَ: أَوْحَى إِلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ طَلَبَ أَحَدٌ اسْتِثْنَاءَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَأَجِبْ سُؤَالَهُ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: سَاغَ لِلْعَبَّاسِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ الْإِذْخِرَ؛ لِأَنَّهُ احْتَمَلَ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِتَحْرِيمِ مَكَّةَ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ دُونَ مَا ذُكِرَ مِنْ تَحْرِيمِ الِاخْتِلَاءِ، فَإِنَّهُ مِنْ تَحْرِيمِ الرَّسُولِ بِاجْتِهَادِهِ، فَسَاغَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَهُ اسْتِثْنَاءَ الْإِذْخِرِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ كَانَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْأَحْكَامِ، وَلَيْسَ مَا قَالَهُ بِلَازِمٍ بَلْ فِي تَقْرِيرِهِ ﷺ لِلْعَبَّاسِ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعَامِّ، وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هُنَا لِلضَّرُورَةِ كَتَحْلِيلِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ الْعَبَّاسُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْإِذْخِرَ لَا غِنًى لِأَهْلِ مَكَّةَ عَنْهُ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ الَّذِي يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ يُشْتَرَطُ حُصُولُهَا فِيهِ، فَلَوْ كَانَ الْإِذْخِرُ مِثْلَ الْمَيْتَةِ لَامْتَنَعَ اسْتِعْمَالُهُ إِلَّا فِيمَنْ تَحَقَّقَتْ ضَرُورَتُهُ إِلَيْهِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ مُبَاحٌ مُطْلَقًا بِغَيْرِ قَيْدِ الضَّرُورَةِ. انْتَهَى.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُهَلَّبِ بِأَنَّ أَصْلَ إِبَاحَتِهِ كَانَتْ لِلضَّرُورَةِ وَسَبَبِهَا، لَا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِهَا. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَالْحَقُّ أَنَّ سُؤَالَ الْعَبَّاسِ كَانَ عَلَى مَعْنَى الضَّرَاعَةِ، وَتَرْخِيصُ النَّبِيِّ ﷺ كَانَ تَبْلِيغًا عَنِ اللَّهِ إِمَّا بِطَرِيقِ الْإِلْهَامِ أَوْ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ، وَمَنِ ادَّعَى أَنَّ نُزُولَ الْوَحْيِ يَحْتَاجُ إِلَى أَمَدٍ مُتَّسِعٍ فَقَدْ وَهَمَ، وَفِي الْحَدِيثِ بَيَانُ خُصُوصِيَّةِ النَّبِيِّ ﷺ بِمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ، وَجَوَازُ مُرَاجَعَةِ الْعَالِمِ فِي الْمَصَالِحِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْمُبَادَرَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي الْمَجَامِعِ وَالْمَشَاهِدِ، وَعَظِيمُ مَنْزِلَةِ الْعَبَّاسِ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، وَعِنَايَتُهُ بِأَمْرِ مَكَّةَ لِكَوْنِهِ كَانَ بِهَا أَصْلُهُ وَمُنْشَؤُهُ، وَفِيهِ رَفْعُ وُجُوبِ الْهِجْرَةِ عَنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَإِبْقَاءُ حُكْمِهَا مِنْ بِلَادِ الْكُفْرِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute