الْعِمَامَةَ السَّوْدَاءَ كَانَتْ مَلْفُوفَةً فَوْقَ الْمِغْفَرِ أَوْ كَانَتْ تَحْتَ الْمِغْفَرِ وِقَايَةً لَرَأْسِهِ مِنْ صَدَأِ الْحَدِيدِ، فَأَرَادَ أَنَسٌ بِذِكْرِ الْمِغْفَرِ كَوْنَهُ دَخَلَ مُتَهَيِّئًا لِلْحَرْبِ، وَأَرَادَ جَابِرٌ بِذِكْرِ الْعِمَامَةِ كَوْنَهُ دَخَلَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ إِشْكَالُ مَنْ قَالَ: لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ دُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَانَ مُحْرِمًا، وَلَكِنَّهُ غَطَّى رَأْسَهُ لِعُذْرٍ، فَقَدِ انْدَفَعَ ذَلِكَ بِتَصْرِيحِ جَابِرٍ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، لَكِنْ فِيهِ إِشْكَالٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ ﷺ كَانَ مُتَأَهِّبًا لِلْقِتَالِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ جَازَ لَهُ الدُّخُولُ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ عِيَاضٌ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ عَلَى مُقَابِلِهِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ كَابْنِ الْقَاصِّ: دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ ﷺ فَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْخُصُوصِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، لَكِنْ زَعَمَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ دَلِيلَ ذَلِكَ قَوْلَهُ ﷺ فِي حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ وَغَيْرِهِ إِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ جَوَازُ دُخُولِهَا لَهُ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ لَا تَحْرِيمُ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَوْ غَلَبُوا وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَكَّةَ حَلَّ لِلْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ وَقَتْلُهُمْ فِيهَا.
وَقَدْ عَكَسَ اسْتِدْلَالَهُ النَّوَوِيُّ فَقَالَ: فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ تَبْقَى دَارَ إِسْلَامٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَبَطَلَ مَا صَوَّرَهُ الطَّحَاوِيُّ. وَفِي دَعْوَاهُ الْإِجْمَاعَ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ حَكَاهُ الْقَفَّالُ، وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَاسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّهُ ﷺ فَتَحَ مَكَّةَ عَنْوَةً، وَأَجَابَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ ﷺ كَانَ صَالَحَهُمْ، لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَأْمَنْ غَدْرَهُمْ دَخَلَ مُتَأَهِّبًا، وَهَذَا جَوَابٌ قَوِيٌّ، إِلَّا أَنَّ الشَّأْنَ فِي ثُبُوتِ كَوْنِهِ صَالَحَهُمْ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ صَرِيحًا كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى فَتْحِ مَكَّةَ مِنَ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَاسْتُدِلَّ بِقِصَّةِ ابْنِ خَطَلٍ عَلَى جَوَازِ إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فِي حَرَمِ مَكَّةَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَانَ قَتْلُ ابْنِ خَطَلٍ قَوَدًا مِنْ قَتْلِهِ الْمُسْلِمَ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: فِيهِ أَنَّ الْكَعْبَةَ لَا تُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا تَمْنَعُ مِنْ إِقَامَةِ حَدٍّ وَاجِبٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: تَأَوَّلَ مَنْ قَالَ لَا يُقْتَلُ فِيهَا عَلَى أَنَّهُ ﷺ قَتَلَهُ فِي السَّاعَةِ الَّتِي أُبِيحَتْ لَهُ، وَأَجَابَ عَنْهُ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهَا إِنَّمَا أُبِيحَتْ لَهُ سَاعَةَ الدُّخُولِ حَتَّى اسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَأَذْعَنَ أَهْلُهَا، وَإِنَّمَا قُتِلَ ابْنُ خَطَلٍ بَعْدَ ذَلِكَ. انْتَهَى.
وَتُعُقِّبَ بِمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّ الْمَرَادَ بِالسَّاعَةِ الَّتِي أُحِلَّتْ لَهُ مَا بَيْنَ أَوَّلِ النَّهَارِ وَدُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ، وَقَتْلُ ابْنِ خَطَلٍ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ قُيِّدَ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَ نَزْعِهِ الْمِغْفَرَ، وَذَلِكَ عِنْدَ اسْتِقْرَارِهِ بِمَكَّةَ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ لِأَحَدٍ فِيهِ الْقَتْلَ غَيْرِي أَيْ: قَتْلَ النَّفَرِ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَئِذٍ؛ ابْنِ خَطَلٍ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ. قَالَ: وَكَانَ اللَّهُ قَدْ أَبَاحَ لَهُ الْقِتَالَ وَالْقَتْلَ مَعًا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، وَقَتْلُ ابْنِ خَطَلٍ وَغَيْرِهِ بَعْدَ تَقَضِّي الْقِتَالِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ الذِّمِّيِّ إِذَا سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وَفِيهِ نَظَرٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ؛ لِأَنَّ ابْنَ خَطَلٍ كَانَ حَرْبِيًّا وَلَمْ يُدْخِلْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي أَمَانِهِ لِأَهْلِ مَكَّةَ، بَلِ اسْتَثْنَاهُ مَعَ مَنِ اسْتثْنى، وَخَرَجَ أَمْرُهُ بِقَتْلِهِ مَعَ أَمَانِهِ لِغَيْرِهِ مَخْرَجًا وَاحِدًا، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِمَا ذَكَرَهُ. انْتَهَى.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُتَمَسَّكَ بِهِ فِي جَوَازِ قَتْلِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ اسْتِتَابَةٍ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِكَوْنِهِ ذِمِّيًّا، لَكِنَّ ابْنَ خَطَلٍ عَمِلَ بِمُوجِبَاتِ الْقَتْلِ فَلَمْ يَتَحَتَّمْ أَنَّ سَبَبَ قَتْلِهِ السَّبُّ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ الْأَسِيرِ صَبْرًا لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى ابْنِ خَطَلٍ صَيَّرَتْهُ كَالْأَسِيرِ فِي يَدِ الْإِمَامِ وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَغَيْرِهِ لَكِنْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ إِنَّهُ ﷺ قَتَلَهُ بِمَا جَنَاهُ فِي الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَتَلَهُ قَوَدًا مِنْ دَمِ الْمُسْلِمِ الَّذِي غَدَرَ بِهِ وَقَتَلَهُ ثُمَّ ارْتَدَّ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ الْأَسِيرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ، تَرْجَمَ بِذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ. وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ لُبْسِ الْمِغْفَرِ وَغَيْرِهِ مِنْ آلَاتِ السِّلَاحِ حَالَ الْخَوْفِ مِنَ الْعَدُوِّ وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ مَتَى يَحِلُّ لِلْمُعْتَمِرِ مِنْ أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ طَافَ وَطُفْنَا مَعَهُ، وَمَعَهُ مَنْ يَسْتُرُهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَرْمِيَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute