قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ﴾ وَيَثْرِبُ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ مِنْهَا سُمِّيَتْ كُلُّهَا بِهِ، قِيلَ: سُمِّيَتْ بِيَثْرِبَ بْنِ قَانِيَةَ مِنْ وَلَدِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ نَزَلَهَا، حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، ثُمَّ سَمَّاهَا النَّبِيُّ ﷺ طَيْبَةَ وَطَابَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابٍ مُفْرَدٍ، وَكَانَ سُكَّانُهَا الْعَمَالِيقَ، ثُمَّ نَزَلَهَا طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قِيلَ: أَرْسَلَهُمْ مُوسَى ﵇ كَمَا أَخْرَجَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، ثُمَّ نَزَلَهَا الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ لَمَّا تَفَرَّقَ أَهْلُ سَبَأٍ بِسَبَبِ سَيْلِ الْعَرِمِ، وَسَيَأْتِي إِيضَاحُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمَغَازِيِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هُنَا أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ، الْأَوَّلُ حَدِيثُ أَنَسٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنْ عَاصِمٍ قُلْتُ لِأَنَسٍ وَسَيَأْتِي فِي الِاعْتِصَامِ، وَلِيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ عَاصِمٍ سَأَلْتُ أَنَسًا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
قَوْلُهُ: (الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا) هَكَذَا جَاءَ مُبْهَمًا، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَابِعِ أَحَادِيثِ الْبَابِ مَا بَيْنَ عَائِرٍ إِلَى كَذَا فَعَيَّنَ الْأَوَّلَ وَهُوَ بِمُهْمَلَةٍ وَزْنُ فَاعِلٍ، وَذَكَرَهُ فِي الْجِزْيَةِ وَغَيْرِهَا بِلَفْظِ: عَيْرٍ بِسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَهُوَ جَبَلٌ بِالْمَدِينَةِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ. وَاتَّفَقَتْ رِوَايَاتُ الْبُخَارِيِّ كُلِّهَا عَلَى إِبْهَامِ الثَّانِي. وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: إِلَى ثَوْرٍ فَقِيلَ: إِنَّ الْبُخَارِيَّ أَبْهَمَهُ عَمْدًا لَمَّا وَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّهُ وَهْمٌ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ وَالْمَطَالِعِ أَكْثَرُ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ ذَكَرُوا عَيْرًا، وَأَمَّا ثَوْرٌ فَمِنْهُمْ مَنْ كَنَّى عَنْهُ بِكَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَ مَكَانَهُ بَيَاضًا، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا التَّوَقُّفِ قَوْلُ مُصْعَبٍ الزُّبَيْرِيِّ: لَيْسَ بِالْمَدِينَةِ عَيْرٌ وَلَا ثَوْرٌ. وَأَثْبَتَ غَيْرُهُ عَيْرًا وَوَافَقَهُ عَلَى إِنْكَارِ ثَوْرٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: قَوْلُهُ: مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ هَذِهِ رِوَايَةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَلَا يَعْرِفُونَ جَبَلًا عِنْدَهُمْ يُقَالُ لَهُ ثَوْرٌ، وَإِنَّمَا ثَوْرٌ بِمَكَّةَ، وَنَرَى أَنَّ أَصْلَ الْحَدِيثِ: مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى أُحُدٍ.
قُلْتُ: وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ. وَقَالَ عِيَاضٌ: لَا مَعْنًى لِإِنْكَارِ عَيْرٍ بِالْمَدِينَةِ فَإِنَّهُ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُهُ فِي أَشْعَارِهِمْ، وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ فِي ذَلِكَ عِدَّةَ شَوَاهِدَ، مِنْهَا قَوْلُ الْأَحْوَصِ الْمَدَنِيِّ الشَّاعِرِ الْمَشْهُورِ:
فَقُلْتُ لِعَمْرٍو تِلْكَ يَا عَمْرُو نَارُهُ … تَشِبُّ قَفَا عَيْرٍ فَهَلْ أَنْتَ نَاظِرُ
وَقَالَ ابْنُ السَّيِّدِ فِي الْمُثَلَّثِ: عَيْرٌ اسْمُ جَبَلٍ بِقُرْبِ الْمَدِينَةِ مَعْرُوفٌ. وَرَوَى الزُّبَيْرُ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ عَنْ عِيسَى بْنِ مُوسَى قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو، لِبِشْرِ بْنِ السَّائِبِ: أَتَدْرِي لِمَ سَكَنَّا الْعَقَبَةَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: لِأَنَّا قَتَلْنَا مِنْكُمْ قَتِيلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأُخْرِجْنَا إِلَيْهَا. فَقَالَ: وَدِدْتُ لَوْ أَنَّكُمْ قَتَلْتُمْ مِنَّا آخَرَ وَسَكَنْتُمْ وَرَاءَ عَيْرٍ، يَعْنِي: جَبَلًا. كَذَا فِي نَفْسِ الْخَبَرِ. وَقَدْ سَلَكَ الْعُلَمَاءُ فِي إِنْكَارِ مُصْعَبٍ الزُّبَيْرِيِّ لِعَيْرٍ وَثَوْرٍ مَسَالِكَ: ما مِنْهَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهَا قَوْلُ ابْنِ قُدَامَةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِقْدَارَ مَا بَيْنَ عَيْرٍ وَثَوْرٍ لَا أَنَّهُمَا بِعَيْنِهِمَا فِي الْمَدِينَةِ، أَوْ سَمَّى النَّبِيُّ ﷺ الْجَبَلَيْنِ اللَّذَيْنِ بِطَرَفَيِ الْمَدِينَةِ عَيْرًا وَثَوْرًا ارْتِجَالًا.
وَحَكَى ابْنُ الْأَثِيرِ كَلَامَ أَبِي عُبَيْدٍ مُخْتَصَرًا ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ: إِنَّ عَيْرًا جَبَلٌ بِمَكَّةَ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ: أَحْرَمَ مِنَ الْمَدِينَةِ مِقْدَارَ مَا بَيْنَ عَيْرٍ وَثَوْرٍ بِمَكَّةَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَوَصْفِ الْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ثَوْرٌ كَانَ اسْمَ جَبَلٍ هُنَاكَ إِمَّا أُحُدٌ وَإِمَّا غَيْرُهُ. وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي الْأَحْكَامِ بَعْدَ حِكَايَةِ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدٍ وَمَنْ تَبِعَهُ: قَدْ أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ الْعَالِمُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ السَّلَامِ الْبَصْرِيُّ أَنَّ حِذَاءَ أُحُدٍ عَنْ يَسَارِهِ جَانِحًا إِلَى وَرَائِهِ جَبَلٌ صَغِيرٌ يُقَالُ لَهُ ثَوْرٌ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ تَكَرَّرَ سُؤَالُهُ عَنْهُ لِطَوَائِفَ مِنَ الْعَرَبِ - أَيِ: الْعَارِفِينَ بِتِلْكَ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْجِبَالِ - فَكُلٌّ أَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْجَبَلَ اسْمُهُ ثَوْرٌ، وَتَوَارَدُوا عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: فَعَلِمْنَا أَنَّ ذِكْرَ ثَوْرٍ فِي الْحَدِيثِ صَحِيحٌ، وَأَنَّ عَدَمَ عِلْمِ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ بِهِ لِعَدَمِ شُهْرَتِهِ وَعَدَمِ بَحْثِهِمْ عَنْهُ. قَالَ: وَهَذِهِ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ. انْتَهى.
وَقَرَأْتُ بِخَطِّ شَيْخِ شُيُوخِنَا الْقُطْبِ الْحَلَبِيِّ فِي شَرْحِهِ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute