حَكَى لَنَا شَيْخُنَا الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مَزْرُوعٍ الْبَصْرِيُّ أَنَّهُ خَرَجَ رَسُولًا إِلَى الْعِرَاقِ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ كَانَ مَعَهُ دَلِيلٌ وَكَانَ يَذْكُرُ لَهُ الْأَمَاكِنَ وَالْجِبَالَ، قَالَ: فَلَمَّا وَصَلْنَا إِلَى أُحُدٍ إِذَا بِقُرْبِهِ جَبَلٌ صَغِيرٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْهُ، فَقَالَ: هَذَا يُسَمَّى ثَوْرًا. قَالَ: فَعَلِمْتُ صِحَّةَ الرِّوَايَةِ. قُلْتُ: وَكَأَنَّ هَذَا كَانَ مَبْدَأَ سُؤَالِهِ عَنْ ذَلِكَ. وَذَكَرَ شَيْخُنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حُسَيْنٍ الْمَرَاغِيُّ نَزِيلُ الْمَدِينَةِ فِي مُخْتَصَرِهِ لِأَخْبَارِ الْمَدِينَةِ أَنَّ خَلَفَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَنْقُلُونَ عَنْ سَلَفِهِمْ أَنَّ خَلَفَ أُحُدٍ مِنْ جِهَةِ الشِّمَالِ جَبَلًا صَغِيرًا إِلَى الْحُمْرَةِ بِتَدْوِيرٍ يُسَمَّى ثَوْرًا، قَالَ: وَقَدْ تَحَقَّقْتُهُ بِالْمُشَاهَدَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ التِّينِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَبْهَمَ اسْمَ الْجَبَلِ عَمْدًا؛ لِأَنَّهُ غَلَطٌ فَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُ، بَلْ إِبْهَامُهُ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي الْجِزْيَةِ فَسَمَّاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا جَبَلَانِ مَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا لَكِنْ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمَالِكٍ كُلُّهُمْ عَنْ عَمْرٍو بِلَفْظِ: مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ثَالِثُ أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ وَسَعْدٍ وَجَابِرٍ وَكُلُّهَا عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ الزَّرَقِيِّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْيَسَرِ، وَأَبِي حُسَيْنٍ، وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ كُلُّهُمْ بِلَفْظِ: مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا وَاللَّابَتَانِ جَمْعُ لَابَةٍ - بِتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ - وَهِيَ الْحَرَّةُ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ السُّودُ، وَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا فِي الْحَدِيثِ.
وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: وَأَنَا أُحَرِّمُ الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ حَرَّتَيْهَا فَادَّعَى بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْحَدِيثَ مُضْطَرِبٌ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا وَفِي رِوَايَةٍ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا وَفِي رِوَايَةٍ: مَأْزِمَيْهَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ، وَبِمِثْلِ هَذَا لَا تُرَدُّ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، فَإِنَّ الْجَمْعَ لَوْ تَعَذَّرَ أَمْكَنَ التَّرْجِيحُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ رِوَايَةَ: مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَرْجَحُ لِتَوَارُدِ الرُّوَاةِ عَلَيْهَا، وَرِوَايَةَ جَبَلَيْهَا لَا تُنَافِيهَا، فَيَكُونُ عِنْدَ كُلِّ لَابَةٍ جَبَلٌ، أَوْ لَابَتَيْهَا مِنْ جِهَةِ الْجَنُوبِ وَالشِّمَالِ، وَجَبَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَتَسْمِيَةُ الْجَبَلَيْنِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَا تَضُرُّ، وَأَمَّا رِوَايَةُ: مَأْزِمَيْهَا فَهِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَالْمَأْزِمُ - بِكَسْرِ الزَّايِ -: الْمَضِيقُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْجَبَلِ نَفْسِهِ. وَاحْتَجَّ الطَّحَاوِيُّ بِحَدِيثِ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ أَبِي عُمَيْرٍ: مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟ قَالَ: لَوْ كَانَ صَيْدُهَا حَرَامًا مَا جَازَ حَبْسُ الطَّيْرِ، وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْ صَيْدِ الْحِلِّ.
قَالَ أَحْمَدُ: مَنْ صَادَ مِنَ الْحِلِّ ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْمَدِينَةَ لَمْ يَلْزَمْهُ إِرْسَالُهُ لِحَدِيثِ أَبِي عُمَيْرٍ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. لَكِنْ لَا يُرَدُّ ذَلِكَ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ صَيْدَ الْحِلِّ عِنْدَهُمْ إِذَا دَخَلَ الْحَرَمَ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْحَرَمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ قِصَّةُ أَبِي عُمَيْرٍ كَانَتْ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثِ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ قَطْعِ النَّخْلِ لِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَلَوْ كَانَ قَطْعُ شَجَرِهَا حَرَامًا مَا فَعَلَهُ ﷺ.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ كَمَا سَيَأْتِي وَاضِحًا فِي أَوَّلِ الْمَغَازِي، وَحَدِيثُ تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ كَانَ بَعْدَ رُجُوعِهِ ﷺ مِنْ خَيْبَرَ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ أَنَسٍ فِي الْجِهَادِ، وَفِي غَزْوَةِ أُحُدٍ مِنَ الْمَغَازِي وَاضِحًا، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ النَّهْيِ عَنْ صَيْدِ الْمَدِينَةِ وَقَطْعِ شَجَرِهَا كَوْنَ الْهِجْرَةِ كَانَتْ إِلَيْهَا، فَكَانَ بَقَاءُ الصَّيْدِ وَالشَّجَرِ مِمَّا يَزِيدُ فِي زِينَتِهَا وَيَدْعُو إِلَى أُلْفَتِهَا، كَمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى عَنْ هَدْمِ آطَامِ الْمَدِينَةِ فَإِنَّهَا مِنْ زِينَةِ الْمَدِينَةِ فَلَمَّا انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ زَالَ ذَلِكَ، وَمَا قَالَهُ لَيْسَ بِوَاضِحٍ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَقَدْ ثَبَتَ عَلَى الْفَتْوَى بِتَحْرِيمِهَا سَعْدٌ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ وَغَيْرُهُمْ كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: يَحْرُمُ صَيْدُ الْمَدِينَةِ وَقَطْعُ شَجَرِهَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَحْرُمُ، ثُمَّ مَنْ فَعَلَ مِمَّا حَرُمَ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْئًا أَثِمَ وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute