النَّظَرِ فِي الْحِسَابِ وَالْمَنَازِلِ: أَحَدُهَا: الْجَوَازُ وَلَا يُجْزِئُ عَنِ الْفَرْضِ، ثَانِيهَا: يَجُوزُ وَيُجْزِئُ، ثَالِثُهَا: يَجُوزُ لِلْحَاسِبِ وَيُجْزِئُهُ لَا لِلْمُنَجِّمِ، رَابِعُهَا: يَجُوزُ لَهُمَا وَلِغَيْرِهِمَا تَقْلِيدُ الْحَاسِبِ دُونَ الْمُنَجِّمِ، خَامِسُهَا: يَجُوزُ لَهُمَا وَلِغَيْرِهِمَا مُطْلَقًا. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ أَمَّا بِالْحِسَابِ فَلَا يَلْزَمُهُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا. قُلْتُ: وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ قَبْلَهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ. فَقَالَ فِي الْإِشْرَافِ: صَوْمُ يَوْمِ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ إِذَا لَمْ يُرَ الْهِلَالُ مَعَ الصَّحْوِ لَا يَجِبُ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةَ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ كَرَاهَتُهُ، هَكَذَا أَطْلَقَ وَلَمْ يُفَصِّلْ بَيْنَ حَاسِبٍ وَغَيْرِهِ، فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمْ كَانَ مَحْجُوجًا بِالْإِجْمَاعِ قَبْلَهُ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْبَحْثِ فِي ذَلِكَ بَعْدَ بَابٍ.
قَوْلُهُ: (الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ) ظَاهِرُهُ حَصْرُ الشَّهْرِ فِي تِسْعٍ وَعِشْرِينَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ فِيهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، أَوِ اللَّامُ لِلْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ شَهْرٌ بِعَيْنِهِ، أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَكْثَرِ الْأَغْلَبِ؛ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَا صُمْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ تِسْعًا وَعِشْرِينَ أَكْثَرَ مِمَّا صُمْنَا ثَلَاثِينَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَمِثْلُهُ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ فِي الْبَابِ أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَوْلُهُ: الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ فَلَا تَصُومُوا. . . إِلَخْ، مَعْنَاهُ حَصْرُهُ مِنْ جِهَةِ أَحَدِ طَرَفَيْهِ، أَيْ: أنَّهُ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَهُوَ أَقَلُّهُ، وَيَكُونُ ثَلَاثِينَ وَهُوَ أَكْثَرُهُ، فَلَا تَأْخُذُوا أَنْفُسَكُمْ بِصَوْمِ الْأَكْثَرِ احْتِيَاطًا، وَلَا تَقْتَصِرُوا عَلَى الْأَقَلِّ تَخْفِيفًا، وَلَكِنِ اجْعَلُوا عِبَادَتَكُمْ مُرْتَبِطَةً ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً بِاسْتِهْلَالِهِ.
قَوْلُهُ: (فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ) لَيْسَ الْمُرَادُ تَعْلِيقَ الصَّوْمِ بِالرُّؤْيَةِ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، بَلِ الْمُرَادُ بِذَلِكَ رُؤْيَةُ بَعْضِهِمْ وَهُوَ مَنْ يَثْبُتُ بِهِ ذَلِكَ، إِمَّا وَاحِدٌ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ أَوِ اثْنَانِ عَلَى رَأْيِ آخَرِينَ. وَوَافَقَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْأَوَّلِ إِلَّا أَنَّهُمْ خَصُّوا ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ فِي السَّمَاءِ عِلَّةٌ مَنْ غَيْمٍ وَغَيْرِهِ، وَإِلَّا مَتَى كَانَ صَحْوًا لَمْ يُقْبَلْ إِلَّا مِنْ جَمْعٍ كَثِيرٍ يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ. وَقَدْ تَمَسَّكَ بِتَعْلِيقِ الصَّوْمِ بِالرُّؤْيَةِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى إِلْزَامِ أَهْلِ الْبَلَدِ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ بَلَدٍ غَيْرِهَا، وَمَنْ لَمْ يَذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ قَالَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى تَرَوْهُ خِطَابٌ لِأُنَاسٍ مَخْصُوصِينَ فَلَا يُلْزَمُ غَيْرَهُمْ، وَلَكِنَّهُ مَصْرُوفٌ عَنْ ظَاهِرِهِ، فَلَا يَتَوَقَّفُ الْحَالُ عَلَى رُؤْيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِالْبَلَدِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا لِأَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ رُؤْيَتُهُمْ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَشْهَدُ لَهُ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ، وَإِسْحَاقَ، وَحَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَمْ يَحْكِ سِوَاهُ، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَجْهًا لِلشَّافِعِيَّةِ. ثَانِيهَا مُقَابِلُهُ إِذَا رُؤِيَ بِبَلْدَةٍ لَزِمَ أَهْلَ الْبِلَادِ كُلِّهَا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لَكِنْ حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِهِ، وَقَالَ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا تُرَاعَى الرُّؤْيَةُ فِيمَا بَعُدَ مِنَ الْبِلَادِ كَخُرَاسَانَ وَالْأَنْدَلُسِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَدْ قَالَ شُيُوخُنَا إِذَا كَانَتْ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ ظَاهِرَةً قَاطِعَةً بِمَوْضِعٍ ثُمَّ نُقِلَ إِلَى غَيْرِهِمْ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ لَزِمَهُمُ الصَّوْمُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَا يُلْزِمُهُمْ بِالشَّهَادَةِ إِلَّا لِأَهْلِ الْبَلَدِ الَّذِي ثَبَتَتْ فِيهِ الشَّهَادَةُ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ فَيُلْزَمَ النَّاسَ كُلَّهُمْ؛ لِأَنَّ الْبِلَادَ فِي حَقِّهِ كَالْبَلَدِ الْوَاحِدِ إِذْ حُكْمُهُ نَافِذٌ فِي الْجَمِيعِ. وَقَالَ بَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ تَقَارَبَتِ الْبِلَادُ كَانَ الْحُكْمُ وَاحِدًا، وَإِنْ تَبَاعَدَتْ فَوَجْهَانِ: لَا يَجِبُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَاخْتَارَ أَبُو الطَّيِّبِ وَطَائِفَةٌ الْوُجُوبَ، وَحَكَاهُ الْبَغَوِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ.
وَفِي ضَبْطِ الْبُعْدِ أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا اخْتِلَافُ الْمَطَالِعِ، قَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَالصَّيْدَلَانِيُّ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ وَشَرْحِ الْمُهَذَّبِ. ثَانِيهَا مَسَافَةُ الْقَصْرِ، قَطَعَ بِهِ الْإِمَامَ وَالْبَغَوِيُّ وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ ثَالِثُهَا: اخْتِلَافُ الْأَقَالِيمِ. رَابِعُهَا: حَكَاهُ السَّرَخْسِيُّ فَقَالَ: يَلْزَمُ كُلَّ بَلَدٍ لَا يُتَصَوَّرُ خَفَاؤُهُ عَنْهَم بِلَا عَارِضٍ دُونَ غَيْرِهِمْ. خَامِسُهَا: قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ الْمُتَقَدِّمُ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ عَلَى مَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ بِقَوْلِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute