للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

فُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَعَلَ الرَّجُلُ يَأْخُذُ خَيْطًا أَبْيَضَ وَخَيْطًا أَسْوَدَ، فَيَضَعُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِهِ، فَيَنْظُرُ مَتَى يَسْتَبِينُهُمَا وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ فَعَلَ هَذَا وَبَعْضُهُمْ فَعَلَ هَذَا، أَوْ يَكُونُوا يَجْعَلُونَهُمَا تَحْتَ الْوِسَادَةِ إِلَى السَّحَرِ فَيَرْبِطُونَهُمَا حِينَئِذٍ فِي أَرْجُلِهِمْ لِيُشَاهِدُوهُمَا.

قَوْلُهُ: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِالتَّشْدِيدِ، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ: حَتَّى يَسْتَبِينَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَالتَّخْفِيفِ.

قَوْلُهُ: (رُؤْيَتُهُمَا) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ رِئْيُهُمَا بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ التَّحْتَانِيَّةِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ زِيُّهُمَا بِكَسْرِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ، قَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ ضُبِطَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ ثَالِثُهَا بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَقَدْ تُكْسَرُ، بَعْدَهَا هَمْزَةٌ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٌ مُشَدَّدَةٌ. قَالَ عِيَاضٌ: وَلَا وَجْهَ لَهُ إِلَّا بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَكَأَنَّهُ رِئْيٌ بِمَعْنَى مَرْئِيٍّ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الرِّئْيَ التَّابِعُ مِنَ الْجِنِّ، فَيُحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ لِتَرَائِيِهِ لِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْإِنْسِ.

قَوْلُهُ: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: حَدِيثُ عَدِيٍّ يَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ نَزَلَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: ﴿مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ﴾ بِخِلَافِ حَدِيثِ سَهْلٍ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ لِرَفْعِ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنَ الْإِشْكَالِ. قَالَ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ بَيْنَ نُزُولِهِمَا عَامٌ كَامِلٌ، قَالَ: فَأَمَّا عَدِيٌّ فَحَمَلَ الْخَيْطَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَفَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ مِنْ أَجْلِ الْفَجْرِ فَفَعَلَ مَا فَعَلَ.

قَالَ: وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ حَدِيثَ عَدِيٍّ مُتَأَخِّرٌ عَنْ حَدِيثِ سَهْلٍ، فَكَأَنَّ عَدِيًّا لَمْ يَبْلُغْهُ مَا جَرَى فِي حَدِيثِ سَهْلٍ، وَإِنَّمَا سَمِعَ الْآيَةَ مُجَرَّدَةً فَفَهِمَهَا عَلَى مَا وَقَعَ لَهُ فَبَيَّنَ لَهُ النَّبِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ أَنْ يَنْفَصِلَ أَحَدُ الْخَيْطَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ﴿يَتَبَيَّنَ﴾ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّتَانِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ - يَعْنِي: فِي قِصَّةِ عَدِيٍّ - تَلَا الْآيَةَ تَامَّةً كَمَا ثَبَتَ فِي الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ حَالَ النُّزُولِ إِنَّمَا نَزَلَتْ مُفَرَّقَةً كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ.

قُلْتُ: وَهَذَا الثَّانِي ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ قِصَّةَ عَدِيٍّ مُتَأَخِّرَةٌ لِتَأَخُّرِ إِسْلَامِهِ كَمَا قَدَّمْتُهُ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ مُجَالِدٍ فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ: أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ لَهُ لَمَّا أَخْبَرَهُ بِمَا صَنَعَ: يَا ابْنَ حَاتِمٍ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ مِنَ الْفَجْرِ وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُجَالِدٍ وَغَيْرِهِ فَقَالَ عَدِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلَّ شَيْءٍ أَوْصَيْتَنِي قَدْ حَفِظْتُهُ غَيْرَ الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، إِنِّي بِتُّ الْبَارِحَةَ مَعِي خَيْطَانِ أَنْظُرُ إِلَى هَذَا وَإِلَى هَذَا، قَالَ: إِنَّمَا هُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ قِصَّةَ عَدِيٍّ مُغَايِرَةٌ لِقِصَّةِ سَهْلٍ، فَأَمَّا مَنْ ذُكِرَ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ فَحَمَلُوا الْخَيْطَ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَلَمَّا نَزَلَ: مِنَ الْفَجْرِ عَلِمُوا الْمُرَادَ، فَلِذَلِكَ قَالَ سَهْلٌ فِي حَدِيثِهِ فَعَلِمُوا أَنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَأَمَّا عَدِيٌّ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي لُغَةِ قَوْمِهِ اسْتِعَارَةُ الْخَيْطِ لِلصُّبْحِ، وَحَمَلَ قَوْلَهُ: مِنَ الْفَجْرِ عَلَى السَّبَبِيَّةِ فَظَنَّ أَنَّ الْغَايَةَ تَنْتَهِي إِلَى أَنْ يَظْهَرَ تَمْيِيزُ أَحَدِ الْخَيْطَيْنِ مِنَ الْآخَرِ بِضِيَاءِ الْفَجْرِ، أَوْ نَسِيَ قَوْلَهُ: مِنَ الْفَجْرِ حَتَّى ذَكَّرَهُ بِهَا النَّبِيُّ وَهَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ بَعْضِ الْعَرَبِ، قَالَ الشَّاعِرُ:

وَلَمَّا تَبَدَّتْ لَنَا سَدْفَةٌ … وَلَاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا

قَوْلُهُ: (فَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي: اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فَعَلِمُوا أَنَّهُ يَعْنِي: وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ: سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ وَمَعْنَى الْآيَةِ حَتَّى يَظْهَرَ بَيَاضُ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ، وَهَذَا الْبَيَانُ يَحْصُلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ الْفَجْرِ مِنَ النَّهَارِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمُرَادُ بِالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ اللَّيْلُ وَبِالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ الْفَجْرُ الصَّادِقُ، وَالْخَيْطُ اللَّوْنُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَبْيَضِ أَوَّلُ مَا يَبْدُو مِنَ الْفَجْرِ الْمُعْتَرِضِ فِي الْأُفُقِ كَالْخَيْطِ الْمَمْدُودِ، وَبِالْأَسْوَدِ مَا يَمْتَدُّ مَعَهُ مِنْ غَبَشِ اللَّيْلِ شَبِيهًا بِالْخَيْطِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ: وَقَوْلُهُ: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ بَيَانٌ لِلْخَيْطِ الْأَبْيَضِ،