إِلَى قَوْمِي مِنْ أَسْلَمَ فَقَالَ: مُرْ قَوْمَكَ أَنْ يَصُومُوا هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَمَنْ وَجَدْتَهُ مِنْهُمْ قَدْ أَكَلَ فِي أَوَّلِ يَوْمِهِ فَلْيَصُمْ آخِرَهُ وَرَوَى أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ هِنْدٍ قَالَ: وَكَانَ هِنْدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَخُوهُ الَّذِي بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَأْمُرُ قَوْمَهُ بِالصِّيَامِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ هِنْدٍ عَنْ أَسْمَاءَ بْنِ حَارِثَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَهُ فَقَالَ: مُرْ قَوْمَكَ بِصِيَامِ هَذَا الْيَوْمِ. قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْتَهُمْ قَدْ طَعِمُوا؟ قَالَ: فَلْيُتِمُّوا آخِرَ يَوْمِهِمْ قُلْتُ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ أَسْمَاءَ وَوَلَدِهِ هِنْدٍ أُرْسِلَا بِذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَطْلَقَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى عَلَى الْجَدِّ اسْمَ الْأَبِ فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ حَبِيبِ بْنِ هِنْدٍ عَنْ جَدِّهِ أَسْمَاءَ فَتَتَّحِدُ الرِّوَايَتَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ سَلَمَةَ هَذَا عَلَى صِحَّةِ الصِّيَامِ لِمَنْ لَمْ يَنْوِهِ مِنَ اللَّيْلِ، سَوَاءٌ كَانَ رَمَضَانَ أَوْ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ ﷺ أَمَرَ بِالصَّوْمِ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ لَا تُشْتَرَطُ مِنَ اللَّيْلِ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنَّ صِيَامَ عَاشُورَاءَ كَانَ وَاجِبًا، وَالَّذِي يَتَرَجَّحُ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ كَانَ فَرْضًا فَقَدْ نُسِخَ بِلَا رَيْبٍ، فَنُسِخَ حُكْمُهُ وَشَرَائِطُهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَمَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ وَمَنْ لَا يَشْتَرِطُ النِّيَّةَ مِنَ اللَّيْلِ لَا يُجِيزُ صِيَامَ مَنْ أَكَلَ مِنَ النَّهَارِ، وَصَرَّحَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ تَرْكَ التَّبْيِيتِ لِصَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنْ خَصَائِصِ عَاشُورَاءَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ حُكْمَهُ بَاقٍ فَالْأَمْرُ بِالْإِمْسَاكِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِجْزَاءَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ بِالْإِمْسَاكِ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ كَمَا يُؤْمَرُ مَنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فِي رَمَضَانَ نَهَارًا وَكَمَا يُؤْمَرُ مَنْ أَفْطَرَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ رَأَى الْهِلَالَ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي أَمْرَهُمْ بِالْقَضَاءِ، بَلْ وَرَدَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَمِّهِ أَنَّ أَسْلَمَ أَتَتِ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: صُمْتُمْ يَوْمَكُمْ هَذَا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَأَتِمُّوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ وَاقْضُوهُ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَثْبُتَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْأَمْرِ بِالْقَضَاءِ فَلَا يَتَعَيَّنُ تَرْكُ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُدْرِكِ الْيَوْمَ بِكَمَالِهِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ كَمَنْ بَلَغَ أَوْ أَسْلَمَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ.
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ لِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ مِنَ اللَّيْلِ بِمَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أُخْتِهِ حَفْصَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَلَا صِيَامَ لَهُ لَفْظُ النَّسَائِيِّ، وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ: مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ وَاخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَرَجَّحَ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ الْمَوْقُوفَ بَعْدَ أَنْ أَطْنَبَ النَّسَائِيُّ فِي تَخْرِيجِ طُرُقِهِ، وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ فِي الْعِلَلِ عَنِ الْبُخَارِيِّ تَرْجِيحَ وَقْفِهِ.
وَعَمِلَ بِظَاهِرِ الْإِسْنَادِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ فَصَحَّحُوا الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، مِنْهُمُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ حَزْمٍ، وَرَوَى لَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ طَرِيقًا آخَرَ، وَقَالَ: رِجَالُهَا ثِقَاتٌ، وَأَبْعَدَ مَنْ خَصَّهُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِصِيَامِ الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ، وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ تَفْرِقَةُ الطَّحَاوِيِّ بَيْنَ صَوْمِ الْفَرْضِ إِذَا كَانَ فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ كَعَاشُورَاءَ فَتُجْزِئُ النِّيَّةُ فِي النَّهَارِ، أَوْ لَا فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ كَرَمَضَانَ، فَلَا يُجْزِئُ إِلَّا بِنِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَبَيْنَ صَوْمِ التَّطَوُّعِ فَيُجْزِئُ فِي اللَّيْلِ وَفِي النَّهَارِ. وَقَدْ تَعَقَّبَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّهُ كَلَامٌ غَثٌّ لَا أَصْلَ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: تُعْتَبَرُ النِّيَّةُ فِي رَمَضَانَ لِكُلِّ يَوْمٍ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ ; وَهُوَ كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ، وَقَالَ زُفَرُ (١): يَصِحُّ صَوْمُ رَمَضَانَ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَاحْتَجَّ زُفَرُ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِيهِ غَيْرُ صَوْمِ رَمَضَانَ لِتَعَيُّنِهِ، فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الزَّمَنَ مِعْيَارٌ لَهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ إِلَّا صَوْمٌ وَاحِدٌ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: يَلْزَمُ قَائِلَ هَذَا أَنْ يُصَحِّحَ صَوْمَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ إِذَا لَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ لِوُجُودِ الْإِمْسَاكِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، قَالَ: فَإِنِ الْتَزَمَهُ كَانَ مُسْتَشْنَعًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَلْزَمُهُ أَنَّ مَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْ وَقْتِهَا إِلَّا قَدْرُهَا فَصَلَّى حِينَئِذٍ تَطَوُّعًا أَنَّهُ يُجْزِئُهُ عَنِ الْفَرْضِ. وَاسْتَدَلَّ ابْنُ حَزْمٍ
(١) في طبعة بولا: بهامش بعض النسخ " والذي قاله الكرخي كما في شرح هداية خلافه فإنه نقل أن مذهب زفر مثل مالك "
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute