قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَضْرِبَ رَأْسَكَ بِالْقَوْسِ، فَقَالَ: قُولُوا لَهُ: فَلْيَكُفَّ عَنِّي حَتَّى نَأْتِيَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ; فَلَمَّا أَتَوْهَا قَالُوا لِعَلْقَمَةَ: سَلْهَا، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَرْفُثَ عِنْدَهَا الْيَوْمَ، فَسَمِعَتْهُ فَقَالَتْ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ فَجَعَلَ شُرَيْحًا هُوَ الْمُنَكَّرَ، وَأَبْهَمَ الَّذِي حَدَّثَ بِذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ، ثُمَّ اسْتَوْعَبَ النَّسَائِيُّ طُرُقَهُ، وَعُرِفَ مِنْهَا أَنَّ الْحَدِيثَ كَانَ عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، وَالْأَسْوَدِ، وَمَسْرُوقٍ جَمِيعًا، فَلَعَلَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ تَارَةً عَنْ هَذَا وَتَارَةً عَنْ هَذَا، وَتَارَةً يَجْمَعُ وَتَارَةً يُفَرِّقُ، وَقَدْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ: كُلُّهَا صِحَاحٌ، وَعُرِفَ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلِ سَبَبُ تَحْدِيثِ عَائِشَةَ بِذَلِكَ وَاسْتِدْرَاكِهَا عَلَى مَنْ حَدَّثَ عَنْهَا بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِقَوْلِهَا: وَلَكِنَّهُ كَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ. فَأَشَارَتْ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ لِمَنْ يَكُونُ مَالِكًا لِنَفْسِهِ دُونَ مَنْ لَا يَأْمَنُ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا يَحْرُمُ.
وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: قَالَ الْأَسْوَدُ قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَيُبَاشِرُ الصَّائِمُ؟ قَالَتْ: لَا. قُلْتُ أَلَيْسَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ؟ قَالَتْ: إِنَّهُ كَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا اعْتَقَدَتْ خُصُوصِيَّةَ النَّبِيِّ ﷺ بِذَلِكَ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. قَالَ: وَهُوَ اجْتِهَادٌ مِنْهَا. وَقَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ - يَعْنِي: الْآتِي ذِكْرُهُ - أَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ نَصٌّ فِي الْوَاقِعَةِ. قُلْتُ: قَدْ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ صَرِيحًا إِبَاحَةُ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهَا الْمُتَقَدِّمِ إِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْجِمَاعَ بِحَمْلِ النَّهْيِ هُنَا عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، فَإِنَّهَا لَا تُنَافِي الْإِبَاحَةَ. وَقَدْ رُوِّينَاهُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ لِيُوسُفَ الْقَاضِي مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حَمَّادٍ بِلَفْظِ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ فَكَرِهَتْهَا، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي تَصْدِيرِ الْبُخَارِيِّ بِالْأَثَرِ الْأَوَّلِ عَنْهَا؛ لِأَنَّهُ يُفَسِّرُ مُرَادَهَا بِالنَّفْيِ الْمَذْكُورِ فِي طَرِيقِ حَمَّادٍ وَغَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَرَى بِتَحْرِيمِهَا وَلَا بِكَوْنِهَا مِنَ الْخَصَائِصِ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ أَبِي النَّضْرِ أَنَّ عَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَدْنُوَ مِنْ أَهْلِكَ فَتُلَاعِبَهَا وَتُقَبِّلَهَا؟ قَالَ: أُقَبِّلُهَا وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ.
قَوْلُهُ: (كَانَ يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ) التَّقْبِيلُ أَخَصُّ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ، فَهُوَ مِنْ ذِكْرِ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ، وَقَدْ رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: كَانَ يُقَبِّلُ فِي شَهْرِ الصَّوْمِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: يُقَبِّلُ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَشَارَتْ بِذَلِكَ إِلَى عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ صَوْمِ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْقُبْلَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ: فَكَرِهَهَا قَوْمٌ مُطْلَقًا وَهُوَ مَشْهُورٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الْقُبْلَةَ وَالْمُبَاشَرَةَ وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ عَنْ قَوْمٍ تَحْرِيمَهَا، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ الْآيَةَ. فَمَنَعَ الْمُبَاشَرَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَهَارًا، وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ، هُوَ الْمُبَيِّنُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ أَبَاحَ الْمُبَاشَرَةَ نَهَارًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُبَاشَرَةِ فِي الْآيَةِ الْجِمَاعُ لَا مَا دُونَهُ مِنْ قُبْلَةٍ وَنَحْوِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ أَفْتَى بِإِفْطَارِ مَنْ قَبَّلَ وَهُوَ صَائِمٌ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شُبْرُمَةَ أَحَدُ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ، وَنَقَلَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ قَوْمٍ لَمْ يُسَمِّهِمْ، وَألْزَمَ ابْنُ حَزْمٍ أَهْلَ الْقِيَاسِ أَنْ يُلْحِقُوا الصِّيَامَ بِالْحَجِّ فِي الْمُبَاشَرَةِ وَمُقَدِّمَاتِ النِّكَاحِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى إِبْطَالِهِمَا بِالْجِمَاعِ، وَأَبَاحَ الْقُبْلَةَ قَوْمٌ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْمَنْقُولُ صَحِيحًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَبِهِ قَالَ سَعِيدٌ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَطَائِفَةٌ، بَلْ بَالَغَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ فَاسْتَحَبَّهَا، وَفَرَّقَ آخَرُونَ بَيْنَ الشَّابِّ وَالشَّيْخِ، فَكَرِهَهَا لِلشَّابِّ وَأَبَاحَهَا لِلشَّيْخِ، وَهُوَ مَشْهُورٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ مَالِكٌ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُمَا، وَجَاءَ فِيهِ حَدِيثَانِ مَرْفُوعَانِ فِيهِمَا ضَعْفٌ أَخْرَجَ أَحَدَهُمَا أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْآخَرُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَفَرَّقَ آخَرُونَ بَيْنَ مَنْ يَمْلِكُ نَفْسَهُ وَمَنْ لَا يَمْلِكُ كَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ عَائِشَةُ وَكَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي مُبَاشَرَةِ الْحَائِضِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَرَأَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute