لِلصَّائِمِ إِذَا مَلَكَ نَفْسَهُ أَنْ يُقَبِّلَ وَإِلَّا فَلَا; لِيَسْلَمَ لَهُ صَوْمُهُ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَهُوَ رَبِيبُ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَيُقَبِّلُ الصَّائِمُ؟ فَقَالَ: سَلْ هَذِهِ - لِأُمِّ سَلَمَةَ - فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَصْنَعُ ذَلِكَ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ غَفَرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الشَّابَّ وَالشَّيْخَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ عُمَرَ حِينَئِذٍ كَانَ شَابًّا، وَلَعَلَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَا بَلَغَ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْخَصَائِصِ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنَّهُ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ صَائِمٌ، فَأَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَسْأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ ذَلِكَ، فَسَأَلَتْهُ فَقَالَ: إِنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ، فَقَالَ زَوْجُهَا: يُرَخِّصُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ فِيمَا يَشَاءُ. فَرَجَعَتْ، فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِ اللَّهِ وَأَتْقَاكُمْ وَأَخْرَجَهُ مَالِكٌ، لَكِنَّهُ أَرْسَلَهُ قَالَ: عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ رَجُلًا فَذَكَرَ نَحْوَهُ مُطَوَّلًا. وَاخْتُلِفَ فِيمَا إِذَا بَاشَرَ أَوْ قَبَّلَ أَوْ نَظَرَ، فَأَنْزَلَ أَوْ أَمَذَى، فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّ: يَقْضِي إِذَا أَنْزَلَ فِي غَيْرِ النَّظَرِ، وَلَا قَضَاءَ فِي الْإِمْذَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ: يَقْضِي فِي كُلِّ ذَلِكَ وَيُكَفِّرُ، إِلَّا فِي الْإِمْذَاءِ فَيَقْضِي فَقَطْ.
وَاحْتُجَّ لَهُ بِأَنَّ الْإِنْزَالَ أَقْصَى مَا يُطْلَبُ بِالْجِمَاعِ مِنَ الِالْتِذَاذِ فِي كُلِّ ذَلِكَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْأَحْكَامَ عُلِّقَتْ بِالْجِمَاعِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِنْزَالٌ فَافْتَرَقَا.
وَرَوَى عِيسَى بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ وُجُوبَ الْقَضَاءِ فِيمَنْ بَاشَرَ أَوْ قَبَّلَ فَأَنْعَظَ وَلَمْ يُمْذِ وَلَا أَنْزَلَ، وَأَنْكَرَهُ غَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ. وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ حُذَيْفَةَ: مَنْ تَأَمَّلَ خَلْقَ امْرَأَتِهِ وَهُوَ صَائِمٌ بَطَلَ صَوْمُهُ لَكِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ قَبَّلَ فَأَنْزَلَ أَفْطَرَ بِلَا خِلَافٍ. كَذَا قَالَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ حَكَى ابْنُ حَزْمٍ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ وَلَوْ أَنْزَلَ، وَقَوَّى ذَلِكَ وَذَهَبَ إِلَيْهِ. وَسَأَذْكُرُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ زِيَادَةً فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (لِأَرَبِهِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: حَاجَتُهُ، وَيُرْوَى بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ: عُضْوُهُ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَإِلَى تَرْجِيحِهِ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِمَا أَوْرَدَهُ مِنَ التَّفْسِيرِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. مَأْرَبٌ حَاجَةٌ) مَأْرَبٌ بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَهَذَا وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ قَالَ: حَاجَةٌ أُخْرَى، كَذَا فِيهِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الْجَمْعِ بِالْوَاحِدِ، فَلَعَلَّهُ كَانَ فِيهَا حَاجَاتٌ أَوْ حَوَائِجُ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنْهُ بِلَفْظِ: مَآرِبُ أُخْرَى قَالَ: حَوَائِجُ أُخْرَى.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ طَاوُسٌ ﴿غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ﴾ الْأَحْمَقُ لَا حَاجَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ) وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ﴾ قَالَ: هُوَ الْأَحْمَقُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ فِي النِّسَاءِ حَاجَةٌ. وَقَدْ وَقَعَ لَنَا هَذَا الْأَثَرُ بِعُلُوٍّ فِي جُزْءِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ الْمَرْوِيِّ مِنْ طَرِيقِ السِّلَفِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَيْضِ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي قَوْلِهِ: لِأَرَبِهِ وَرَأَيْتُ بِخَطِّ مُغَلْطَايْ فِي شَرْحِهِ هُنَا قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - أَيْ: فِي تَفْسِيرِ ﴿أُولِي الإِرْبَةِ﴾ -: الْمُقْعَدُ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ الْمَعْتُوهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْعِنِّينُ، وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ، وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْقُطْبَ لَمَّا أَخْرَجَ أَثَرَ طَاوُسٍ قَالَ بَعْدَهُ: وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُقْعَدُ. . . إِلَخْ وَلَمْ يُرِدِ الْقُطْبُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ ذَكَرَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ الْقُطْبُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: إِنْ نَظَرَ فَأَمْنَى يُتِمُّ صَوْمَهُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ هَرَمٍ سُئِلَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ رَجُلٍ نَظَرَ إِلَى امْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ فَأَمْنَى مِنْ شَهْوَتِهَا، هَلْ يُفْطِرُ؟ قَالَ: لَا، وَيُتِمُّ صَوْمَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ الْخِلَافِ فِيهِ قَرِيبًا.
(تَنْبِيهٌ): وَقَعَ هَذَا الْأَثَرُ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ هُنَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبَاقِينَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ فِي الْبَابَيْنِ مَعًا، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلْبَابَيْنِ مِنْ جِهَةِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَنْ يَقَعُ مِنْهُ الْإِنْزَالُ بِاخْتِيَارِهِ وَبَيْنَ مَنْ يَقَعُ مِنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، كَمَا سَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِيهِ، إِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute