للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وَاتَّحَدَ الْحُكْمُ هَلْ يُقَيَّدُ الْمُطْلَقُ أَوْ لَا؟ وَهَلْ تَقْيِيدُهُ بِالْقِيَاسِ أَوْ لَا؟ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ بِالْقِيَاسِ، وَيُؤَيِّدُهُ التَّقْيِيدُ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى.

قَوْلُهُ: (قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا)، وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بن سَعْدٍ قَالَ: فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، وَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ قَالَ: لَا أَقْدِرُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: وَهَلْ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ إِلَّا مِنَ الصِّيَامِ؟. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَا إِشْكَالَ فِي الِانْتِقَالِ عَنِ الصَّوْمِ إِلَى الْإِطْعَامِ، لَكِنَّ رِوَايَةَ ابْنِ إِسْحَاقَ هَذِهِ اقْتَضَتْ أَنَّ عَدَمَ اسْتِطَاعَتِهِ لِشِدَّةِ شَبَقِهِ وَعَدَمِ صَبْرِهِ عَنِ الْوَقَاعِ فَنَشَأَ لِلشَّافِعِيَّةِ نَظَرٌ: هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا - أَيْ: شِدَّةُ الشَّبَقِ - حَتَّى يُعَدَّ صَاحِبُهُ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ لِلصَّوْمِ أَوْ لَا؟ وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ مَنْ يَجِدُ رَقَبَةً لَا غِنَى بِهِ عَنْهَا، فَإِنَّهُ يَسُوغُ لَهُ الِانْتِقَالُ إِلَى الصَّوْمِ مَعَ وُجُودِهَا لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْوَاجِدِ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مُرْسَلًا، أَنَّهُ قَالَ فِي جَوَابِ قَوْلِهِ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ إِنِّي لَأَدَعُ الطَّعَامَ سَاعَةً فَمَا أُطِيقُ ذَلِكَ فَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَلَعَلَّهُ اعْتَلَّ بِالْأَمْرَيْنِ.

قَوْلُهُ: (فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا) زَادَ ابْنُ مُسَافِرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ إِطْعَامَ؟، وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، وَعِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ: فَتُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا أَجِدُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَفْصَةَ: أَفَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا وَذَكَرَ الْحَاجَةَ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُشْبِعُ أَهْلِي. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: أَضَافَ الْإِطْعَامَ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ أَطْعِمْ إِلَى سِتِّينَ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي حَقِّ مَنْ أَطْعَمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ مَثَلًا، وَمَنْ أَجَازَ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ اسْتَنْبَطَ مِنَ النَّصِّ مَعْنًى يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْإِبْطَالِ، وَالْمَشْهُورُ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ الْإِجْزَاءُ حَتَّى لَوْ أَطْعَمَ الْجَمِيعُ مِسْكِينًا وَاحِدًا فِي سِتِّينَ يَوْمًا كَفَى، وَالْمُرَادُ بِالْإِطْعَامِ الْإِعْطَاءُ لَا اشْتِرَاطُ حَقِيقَةِ الْإِطْعَامِ مِنْ وَضْعِ الْمَطْعُومِ فِي الْفَمِ، بَلْ يَكْفِي الْوَضْعُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي إِطْلَاقِ الْإِطْعَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِوُجُودِ الْإِطْعَامِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ مُنَاوَلَةٍ، بِخِلَافِ زَكَاةِ الْفَرْضِ، فَإِنَّ فِيهَا النَّصَّ عَلَى الْإِيتَاءِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، فَإِنَّ فِيهَا النَّصَّ عَلَى الْأَدَاءِ، وَفِي ذِكْرِ الْإِطْعَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ طَاعِمِينَ فَيَخْرُجُ الطِّفْلُ الَّذِي لَمْ يَطْعَمْ كَقَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ، وَنَظَرَ الشَّافِعِيُّ إِلَى النَّوْعِ فَقَالَ: يُسَلَّمُ لِوَلِيِّهِ، وَذَكَرَ السِّتِّينَ لِيُفْهَمَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ مَا زَادَ عَلَيْهَا، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِالْمَفْهُومِ تَمَسَّكَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ.

وَذُكِرَ فِي حِكْمَةِ هَذِهِ الْخِصَالِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ مَنِ انْتَهَكَ حُرْمَةَ الصَّوْمِ بِالْجِمَاعِ فَقَدْ أَهْلَكَ نَفْسَهُ بِالْمَعْصِيَةِ فَنَاسَبَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً فَيَفْدِيَ نَفْسَهُ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ. وَأَمَّا الصِّيَامُ فَمُنَاسَبَتُهُ ظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُقَاصَّةِ بِجِنْسِ الْجِنَايَةِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ شَهْرَيْنِ فَلِأَنَّهُ لَمَّا أُمِرَ بِمُصَابَرَةِ النَّفْسِ فِي حِفْظِ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى الْوَلَاءِ فَلَمَّا أَفْسَدَ مِنْهُ يَوْمًا كَانَ كَمَنْ أَفْسَدَ الشَّهْرَ كُلَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ بِالنَّوْعِ فَكُلِّفَ بِشَهْرَيْنِ مُضَاعَفَةً عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ لِنَقِيضِ قَصْدِهِ.

وَأَمَّا الْإِطْعَامُ فَمُنَاسَبَتُهُ ظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُقَابَلَةُ كُلِّ يَوْمٍ بِإِطْعَامِ مِسْكَيْنٍ. ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ جَامِعَةٌ؛ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى حَقِّ اللَّهِ وَهُوَ الصَّوْمُ، وَحَقِّ الْأَحْرَارِ بِالْإِطْعَامِ، وَحَقِّ الْأَرِقَّاءِ بِالْإِعْتَاقِ، وَحَقِّ الْجَانِي بِثَوَابِ الِامْتِثَالِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِالْجِمَاعِ خِلَافًا لِمَنْ شَذَّ فَقَالَ: لَا تَجِبُ مُسْتَنِدًا إِلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا سَقَطَ بِالْإِعْسَارِ، وَتُعُقِّبَ بِمَنْعِ الْإِسْقَاطِ كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ بَابِ الصَّائِمُ يُصْبِحُ جُنُبًا نَقْلُ الْخِلَافِ فِي إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِالْقُبْلَةِ وَالنَّظَرِ وَالْمُبَاشَرَةِ وَالْإِنْعَاظِ، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ يُلْحَقُ الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ كُلُّ وَطْءٍ فِي أَيِّ فَرْجٍ كَانَ؟ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَرَيَانِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكَفَّارَةِ. وَوَقَعَ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَلَا يَعْرِفُ مَالِكٌ غَيْرَ الْإِطْعَامِ وَلَا يَأْخُذُ بِعِتْقٍ وَلَا صِيَامٍ.

قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهِيَ مُعْضِلَةٌ لَا يَهْتَدِي إِلَى تَوْجِيهِهَا مَعَ مُصَادَمَةِ