لَيْسَ فِيهِ صَائِمٌ إِنَّمَا هُوَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَكِنْ لَيْسَ فِيهَا طَرِيقُ أَيُّوبَ هَذِهِ، وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ لَا مِرْيَةَ فِيهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَسَبَقَ إِلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وَاعْتَرَضَ ابْنُ خُزَيْمَةَ بِأَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ صَائِمًا مُحْرِمًا، قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ قَطُّ مُحْرِمًا مُقِيمًا بِبَلَدِهِ، إِنَّمَا كَانَ مُحْرِمًا وَهُوَ مُسَافِرٌ، وَالْمُسَافِرُ إِنْ كَانَ نَاوِيًا لِلصَّوْمِ فَمَضَى عَلَيْهِ بَعْضُ النَّهَارِ وَهُوَ صَائِمٌ أُبِيحَ لَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِذَا جَازَ لَهُ ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَحْتَجِمَ وَهُوَ مُسَافِرٌ، قَالَ: فَلَيْسَ فِي خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى إِفْطَارِ الْمَحْجُومِ فَضْلًا عَنِ الْحَاجِمِ اهـ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ مَا وَرَدَ هَكَذَا إِلَّا لِفَائِدَةٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وُجِدَتْ مِنْهُ الْحِجَامَةُ وَهُوَ صَائِمٌ لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْ صَوْمِهِ وَاسْتَمَرَّ.
وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ أَيْضًا: جَاءَ بَعْضُهُمْ بِأُعْجُوبَةٍ فَزَعَمَ أَنَّهُ ﷺ إِنَّمَا قَالَ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ لِأَنَّهُمَا كَانَا يَغْتَابَانِ، قَالَ: فَإِذَا قِيلَ لَهُ: فَالْغِيبَةُ تُفْطِرُ الصَّائِمَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَعَلَى هَذَا لَا يَخْرُجُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْحَدِيثِ بِلَا شُبْهَةٍ. انْتَهَى.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ الطَّحَاوِيُّ، وَعُثْمَانُ الدَّارِمِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ، عَنْ ثَوْبَانَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلَهُ، وَيَزِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ مَتْرُوكٌ، وَحَكَمَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ بِأَنَّهُ حَدِيثٌ بَاطِلٌ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: صَحَّ حَدِيثُ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ بِلَا رَيْبٍ، لَكِنْ وَجَدْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: أَرْخَصَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ فَوَجَبَ الْأَخْذُ بِهِ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ الْعَزِيمَةِ، فَدَلَّ عَلَى نَسْخِ الْفِطْرِ بِالْحِجَامَةِ سَوَاءٌ كَانَ حَاجِمًا أَوْ مَحْجُومًا. انْتَهَى. وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَلَكِنِ اخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَلَفْظُهُ: أَوَّلُ مَا كُرِهَتِ الْحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَمَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: أَفْطَرَ هَذَانِ. ثُمَّ رَخَّصَ النَّبِيُّ ﷺ بَعْدُ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ. وَكَانَ أَنَسٌ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ وَرُوَاتُهُ كُلُّهُمْ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ، إِلَّا أَنَّ فِي الْمَتْنِ مَا يُنْكَرُ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْفَتْحِ، وَجَعْفَرٌ كَانَ قُتِلَ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَمِنْ أَحْسَنِ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ: مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ عَنِ الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ وَعَنِ الْمُوَاصَلَةِ وَلَمْ يُحَرِّمْهُمَا إِبْقَاءً عَلَى أَصْحَابِهِ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَالْجَهَالَةُ بِالصَّحَابِيِّ لَا تَضُرُّ، وَقَوْلُهُ: إِبْقَاءً عَلَى أَصْحَابِهِ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: نَهَى، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ بِإِسْنَادِهِ هَذَا وَلَفْظُهُ: عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ قَالُوا: إِنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ وَكَرِهَهَا لِلضَّعِيفِ أَيْ: لِئَلَّا يَضْعُفَ.
قَوْلُهُ: (سَمِعْتُ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ قَالَ: سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) كَذَا فِي أَكْثَرِ أُصُولِ الْبُخَارِيِّ. سُئِلَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْوَقْتِ سَأَلَ أَنَسًا وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ شُعْبَةَ مَا حَضَرَ سُؤَالَ ثَابِتٍ، لِأَنَسٍ، وَقَدْ سَقَطَ مِنْهُ رَجُلٌ بَيْنَ شُعْبَةَ، وَثَابِتٍ فَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقَلَانِسِيِّ، وَأَبِي قِرْصَافَةَ، مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ دُرَيْدٍ، كُلُّهُمْ عَنْ آدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَقَالَ: عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ ثَابِتًا وَهُوَ يَسْأَلُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَأَشَارَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ إِلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي وَقَعَتْ لِلْبُخَارِيِّ خَطَأٌ، وَأَنَّهُ سَقَطَ مِنْهُ حُمَيْدٌ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ.
قَوْلُهُ: (وَزَادَ شَبَابَةُ حَدَّثَنَا: شُعْبَةُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ) هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ رِوَايَةَ شَبَابَةَ مُوَافِقَةٌ لِرِوَايَةِ آدَمَ فِي الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ إِلَّا أَنَّ شَبَابَةُ زَادَ فِيهِ مَا يُؤَكِّدُ رَفْعَهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ فِي غَرَائِبِ شُعْبَةَ طَرِيقَ شَبَابَةَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute