للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

فِي الْجِهَادِ مِنْ طَرِيقِ مُؤَرَّقٍ، عَنْ أَنَسٍ نَحْوُ هَذَا مَرْفُوعًا، حَيْثُ قَالَ لِلْمُفْطِرِينَ حَيْثُ خَدَمُوا الصُّيَّامَ: ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ الصَّوْمَ أَيْضًا بِمَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَأْخُذُونَ بِالْآخِرِ فَالْآخِرُ مِنْ فِعْلِهِ، وَزَعَمُوا أَنَّ صَوْمَهُ فِي السَّفَرِ مَنْسُوخٌ، وَتُعُقِّبَ أَوَّلًا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مُدْرَجَةٌ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ، وَبِأَنَّهُ اسْتَنَدَ إِلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ مِنْ أَنَّهُ أَفْطَرَ بَعْدَ أَنْ صَامَ وَنَسَبَ مَنْ صَامَ إِلَى الْعِصْيَانِ، وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ صَامَ بَعْدَ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي السَّفَرِ وَلَفْظُهُ: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مَكَّةَ وَنَحْنُ صِيَامٌ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَقَالَ النَّبِيُّ : إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا، فَكَانَتْ رُخْصَةً، فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ فَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطَرُوا، فَكَانَتْ عَزِيمَةً فَأَفْطَرْنَا.

ثُمَّ لَقَدْ رَأَيْتُنَا نَصُومُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ وَهَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَمِنْهُ يُؤْخَذُ الْجَوَابُ عَنْ نِسْبَتِهِ الصَّائِمِينَ إِلَى الْعِصْيَانِ؛ لِأَنَّهُ عَزَمَ عَلَيْهِمْ فَخَالَفُوا، وَهُوَ شَاهِدٌ لِمَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْفِطْرَ أَفْضَلُ لِمَنْ شَقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى الْفِطْرِ لِلتَّقَوِّي بِهِ عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ فِي تَهْذِيبِهِ مِنْ طَرِيقِ خَيْثَمَةَ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: لَقَدْ أَمَرْتُ غُلَامِي أَنْ يَصُومَ، قَالَ فَقُلْتُ لَهُ: فَأَيْنَ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ فَقَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ وَنَحْنُ نَرْتَحِلُ جِيَاعًا وَنَنْزِلُ عَلَى غَيْرِ شِبَعٍ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَنَرْتَحِلُ شِبَاعًا وَنَنْزِلُ عَلَى شِبَعٍ، فَأَشَارَ أَنَسٌ إِلَى الصِّفَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْفِطْرُ أَفْضَلَ مِنَ الصَّوْمِ.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ: الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ فَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا أَيْضًا وَفِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَرَوَاهُ الْأَثْرَمُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا، وَالْمَحْفُوظُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ مَوْقُوفًا، كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَمَعَ وَقْفِهِ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ أَبَا سَلَمَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَوَّلًا، حَيْثُ يَكُونُ الْفِطْرُ أَوْلَى مِنَ الصَّوْمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ فَسَلَكَ الْمُجِيزُونَ فِيهِ طُرُقًا: فَقَالَ بَعْضُهُمْ قَدْ خَرَجَ عَلَى سَبَبٍ فَيُقْصَرُ عَلَيْهِ، وَعَلَى مَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهِ، وَإِلَى هَذَا جَنَحَ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ، وَلِذَا قَالَ الطَّبَرِيُّ بَعْدَ أَنْ سَاقَ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ رِوَايَةِ كَعْبِ بْنِ عَاصِمٍ الْأَشْعَرِيِّ وَلَفْظُهُ: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ وَنَحْنُ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، فَإِذَا رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ قَدْ دَخَلَ تَحْتَ ظِلِّ شَجَرَةٍ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ كَضَجْعَةِ الْوَجِعِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : مَا لِصَاحِبِكُمْ، أَيُّ وَجَعٍ بِهِ؟ فَقَالُوا: لَيْسَ بِهِ وَجَعٌ، وَلَكِنَّهُ صَائِمٌ، وَقَدِ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ حِينَئِذٍ: لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ، عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ فَكَانَ قَوْلُهُ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْحَالِ.

وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: أُخِذَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ كَرَاهَةَ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ هُوَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ مِمَّنْ يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ أَوْ يُؤَدِّي بِهِ إِلَى تَرْكِ مَا هُوَ أَوْلَى مِنَ الصَّوْمِ مِنْ وُجُوهِ الْقُرَبِ، فَيُنَزَّلُ قَوْلُهُ: لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ. قَالَ: وَالْمَانِعُونَ فِي السَّفَرِ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ، وَالْعِبْرَةَ بِعُمُومِهِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَنَبَّهَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ دَلَالَةِ السَّبَبِ وَالسِّيَاقِ وَالْقَرَائِنِ عَلَى تَخْصِيصِ الْعَامِّ وَعَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ، وَبَيْنَ مُجَرَّدِ وُرُودِ الْعَامِّ عَلَى سَبَبٍ، فَإِنَّ بَيْنَ الْعَامَّيْنِ فَرْقًا وَاضِحًا، وَمَنْ أَجْرَاهُمَا مُجْرًى وَاحِدًا لَمْ يُصِبْ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ وُرُودِ الْعَامِّ عَلَى سَبَبٍ لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِهِ كَنُزُولِ آيَةِ السَّرِقَةِ فِي قِصَّةِ سَرِقَةِ رِدَاءِ صَفْوَانَ، وَأَمَّا السِّيَاقُ وَالْقَرَائِنُ الدَّالَّةُ عَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ فَهِيَ الْمُرْشِدَةُ لِبَيَانِ الْمُجْمَلَاتِ وَتَعْيِينِ