يُصِبِ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ مُسْتَقِيمَةٌ، وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى الزِّيَادَةِ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ فِي سُنَنِهِ فَأَخْرَجَاهُ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو مُوسَى كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ لَهُ عَنْهُ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْجَوْزَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلِ بْنِ خُوَيْلِدِ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ كَذَلِكَ، وَابْنُ جُرَيْجٍ كَانَ رُبَّمَا دَلَّسَ، وَلِهَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ قَصَّرَ فِي إِسْنَادِهِ، لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ لَقِيَ مُحَمَّدًا فَسَمِعَهُ مِنْهُ، أَوْ سَمِعَ مِنْ مُحَمَّدٍ وَاسْتَثْبَتَ فِيهِ مِنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ فَكَانَ يُحَدِّثُ بِهِ تَارَةً عَنْ هَذَا وَتَارَةً عَنْ هَذَا، وَلَعَلَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ أَحَدِهِمَا فِي الْمَتْنِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْآخَرِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ يَنْفَرِدْ أَبُو سَعْدٍ بِمُتَابَعَةِ أَبِي عَاصِمٍ عَلَى ذِكْرِ عَبْدِ الْحَمِيدِ كَمَا يُوهِمُهُ كَلَامُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، بَلْ تَابَعَهُمَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَبُو قُرَّةَ، وَحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ كَمَا قَدَّمْتُ ذِكْرَهُ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ أَكْثَرُ عَدَدًا مِمَّنْ رَوَاهُ عَنْهُ بِإِسْقَاطِهِ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ الْمَذْكُورُ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ رَوَى عَنْ عَمَّتِهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ وَهِيَ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ: هَذَا، وَآخَرُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَآخَرُ فِي الْأَدَبِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبَّادٍ أَخْبَرَهُ، وَرِجَالُ هَذَا الْإِسْنَادِ مَكِّيُّونَ إِلَّا شَيْخَ الْبُخَارِيِّ فَهُوَ بَصْرِيٌّ، وَالصَّحَابِيَّ فَهُوَ مَدَنِيٌّ، وَقَدْ أَقَامَا بِمَكَّةَ زَمَانًا.
قَوْلُهُ: (سَأَلْتُ جَابِرًا) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الْمَذْكُورَةِ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَزَادُوا أَيْضًا فِي آخِرِهِ قَالَ: نَعَمْ وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: وَرَبِّ الْكَعْبَةِ وَعَزَاهَا صَاحِبُ الْعُمْدَةِ لِمُسْلِمٍ فَوَهَمَ. وَفِيهِ جَوَازُ الْحَلِفِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَافٍ لِتَأْكِيدِ الْأَمْرِ، وَإِضَافَةُ الرُّبُوبِيَّةِ إِلَى الْمَخْلُوقَاتِ الْمُعَظَّمَةِ تَنْوِيهًا بِتَعْظِيمِهَا، وَفِيهِ الِاكْتِفَاءُ فِي الْجَوَابِ بِـ نَعَمْ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْأَمْرِ الْمُفَسَّرِ بِهَا.
قَوْلُهُ: (زَادَ غَيْرُ أَبِي عَاصِمٍ يَعْنِي: أَنْ يَنْفَرِدَ بِصَوْمِهِ) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: أَنْ يَنْفَرِدَ بِصَوْمٍ وَالْغَيْرُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ جَزَمَ الْبَيْهَقِيُّ بِأَنَّهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، لَكِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِالزِّيَادَةِ مِنْ طَرِيقِهِ وَمِنْ طَرِيقِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، وَحَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ. وَلَفْظُ يَحْيَى: أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَنْهَى أَنْ يَنْفَرِدَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ بِصَوْمٍ؟ قَالَ: أي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. وَلَفْظُ حَفْصٍ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مُفْرَدًا. وَلَفْظُ النَّضْرِ: أَنَّ جَابِرًا سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يُفْرَدَ.
قَوْلُهُ في حديث أبي هريرة: (لَا يَصُومُ أَحَدُكُمْ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَهُوَ بِلَفْظِ النَّفْيِ، وَالْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: لَا يَصُومَنَّ بِلَفْظِ النَّهْيِ الْمُؤَكَّدِ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ) تَقْدِيرُهُ: إِلَّا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ يَوْمًا لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِنَزْعِ الْخَافِضِ، تَقْدِيرُهُ: إِلَّا بِيَوْمٍ قَبْلَهُ، وَتَكُونُ الْبَاءُ لِلْمُصَاحِبَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَشْكَابٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ: إِلَّا أَنْ تَصُومُوا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ: لَا يَصُمْ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَصُومَ بَعْدَهُ. وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: إِلَّا أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ يَوْمًا أَوْ يَصُومَ بَعْدَهُ يَوْمًا. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا تَخُصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، وَلَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ عَوْفٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ بِلَفْظِ: نَهَى أَنْ يُفْرَدَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ بِصَوْمٍ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَوْبَرِ زِيَادٍ الْحَارِثِيِّ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: أَنْتَ الَّذِي تَنْهَى النَّاسَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: هَا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ثَلَاثًا، لَقَدْ سَمِعْتُ مُحَمَّدًا ﷺ يَقُولُ: لَا يَصُومُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute