تَابَ سَقَطَ عَنْهُ اسْمُ الْفِسْقِ، وَأَمَّا شَهَادَتُهُ فَلَا تُقْبَلُ أَبَدًا. وَقَالَ بِذَلِكَ بَعْضُ التَّابِعِينَ. وَفِيهِ مَذْهَبٌ آخَرُ: يُقْبَلُ بَعْدَ الْحَدِّ لَا قَبْلَهُ. وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ حَتَّى يُحَدَّ، وَتَعَقَّبَهُ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَةٌ لِأَهْلِهَا، فَهُوَ بَعْدَ الْحَدِّ خَيْرٌ مِنْهُ قَبْلَهُ، فَكَيْفَ يُرَدُّ فِي خَيْرِ حَالَتَيْهِ، وَيُقْبَلُ فِي شَرِّهِمَا.
قَوْلُهُ: (وَجَلَدَ عُمَرُ، أَبَا بَكْرَةَ، وَشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ، وَنَافِعًا بِقَذْفِ الْمُغِيرَةِ ثُمَّ اسْتَتَابَهُمْ، وَقَالَ: مَنْ تَابَ قَبِلْتُ شَهَادَتَهُ) وَصَلَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: زَعَمَ أَهْلُ الْعِرَاقِ أَنَّ شَهَادَةَ الْمَحْدُودِ لَا تَجُوزُ، فَأَشْهَدُ لَأَخْبَرَنِي فُلَانٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِأَبِي بَكْرَةَ: تُبْ وَأَقْبَلَ شَهَادَتَكَ.
قَالَ سُفْيَانُ: سَمَّى الزُّهْرِيُّ الَّذِي أَخْبَرَهُ فَحَفِظْتُهُ ثُمَّ نَسِيتُهُ، فَقَالَ لِي عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ: هُوَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ. قُلْتُ: رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سُفْيَانَ فَسَمَّاهُ ابْنَ الْمُسَيَّبِ، وَكَذَلِكَ رُوِّينَاهُ بِعُلُوٍّ مِنْ طَرِيقِ الزَّعْفَرَانِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَتَمَّ مِنْ هَذَا، وَلَفْظُهُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ضَرَبَ أَبَا بَكْرَةَ، وَشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ، وَنَافِعَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ الْحَدَّ، وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ قَبِلْتُ شَهَادَتَهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ أُجِزْ شَهَادَتَهُ. فَأَكْذَبَ شِبْلٌ نَفْسَهُ وَنَافِعٌ، وَأَبَى أَبُو بَكْرَةَ أَنْ يَفْعَلَ قَالَ الزُّهْرِيُّ: هُوَ وَاللَّهِ سُنَّةٌ فَاحْفَظُوهُ. وَرَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ عُمَرَ حَيْثُ شَهِدَ أَبُو بَكْرَةَ، وَنَافِعٌ، وَشِبْلٌ عَلَى الْمُغِيرَةِ وَشَهِدَ زِيَادٌ عَلَى خِلَافِ شَهَادَتِهِمْ، فَجَلَدَهُمْ عُمَرُ وَاسْتَتَابَهُمْ، وَقَالَ: مَنْ رَجَعَ مِنْكُمْ عَنْ شَهَادَتِهِ قَبِلْتُ شَهَادَتَهُ.
فَأَبَى أَبُو بَكْرَةَ أَنْ يَرْجِعَ أَخْرَجَهُ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ الْبَصْرَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَسَاقَ قِصَّةَ الْمُغِيرَةِ هَذِهِ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ مُحَصَّلُهَا أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ كَانَ أَمِيرَ الْبَصْرَةِ لِعُمَرَ، فَاتَّهَمَهُ أَبُو بَكْرَةَ - وَهُوَ نُفَيْعٌ - الثَّقَفِيُّ الصَّحَابِيُّ الْمَشْهُورُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرَةَ، وَنَافِعُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ الثَّقَفِيُّ وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي الصَّحَابَةِ، وَشِبْلٌ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ ابْنُ مَعْبَدِ بْنِ عُتَيْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ الْبَجَلِيُّ، وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي الْمُخَضْرَمِينَ، وَزِيَادُ بْنُ عُبَيْدٍ الَّذِي كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يُقَالُ لَهُ: زِيَادُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ - إِخْوَةٌ مِنْ أُمٍّ، أُمُّهُمْ سُمَيَّةُ مَوْلَاةُ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ، فَاجْتَمَعُوا جَمِيعًا فَرَأَوُا الْمُغِيرَةَ مُتَبَطِّنَ الْمَرْأَةِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهَا: الرَّقْطَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ الْأَفْقَمِ الْهِلَالِيَّةُ، وَزَوْجُهَا الْحَجَّاجُ بْنُ عَتِيكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَوْفٍ الْجُشَمِيُّ، فَرَحَلُوا إِلَى عُمَرَ فَشَكَوْهُ فَعَزَلَهُ، وَوَلَّى أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، وَأَحْضَرَ الْمُغِيرَةَ فَشَهِدَ عَلَيْهِ الثَّلَاثَةُ بِالزِّنَا، وَأَمَّا زِيَادٌ فَلَمْ يَبُتَّ الشَّهَادَةَ، وَقَالَ: رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَبِيحًا وَمَا أَدْرِي أَخَالَطَهَا أَمْ لَا، فَأَمَرَ عُمَرُ بِجَلْدِ الثَّلَاثَةَ حَدَّ الْقَدْفِ، وَقَالَ مَا قَالَ.
وَأَخْرَجَ الْقِصَّةَ الطَّبَرَانِيُّ فِي تَرْجَمَةِ شِبْلِ بْنِ مَعْبَدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ أَنَّهُ شَاهَدَ ذَلِكَ عِنْدَ عُمَرَ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ مُطَوَّلًا وَفِيهَا: فَقَالَ زِيَادٌ: رَأَيْتُهُمَا فِي لِحَافٍ، وَسَمِعْتُ نَفَسًا عَالِيًا، وَلَا أَدْرِي مَا وَرَاءَ ذَلِكَ وَقَدْ حَكَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي الْمَدْخَلِ أَنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَشْكَلَ إِخْرَاجَ الْبُخَارِيِّ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَاحْتِجَاجَهُ بِهَا مَعَ كَوْنِهِ احْتَجَّ بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَأَجَابَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ وَأَنَّ الشَّهَادَةَ يُطْلَبُ فِيهَا مَزِيدُ تَثَبُّتٍ لَا يُطْلَبُ فِي الرِّوَايَةِ كَالْعَدَدِ وَالْحُرِّيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَاسْتَنْبَطَ الْمُهْلَّبُ مِنْ هَذَا أَنَّ إِكْذَابَ الْقَاذِفِ نَفْسَهُ لَيْسَ شَرْطًا فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ ; لِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ لَمْ يُكْذِبْ نَفْسَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ قَبِلَ الْمُسْلِمُونَ رِوَايَتَهُ وَعَمِلُوا بِهَا.
قَوْلُهُ: (وَأَجَازَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ) أَيِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عِمْرَانَ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ يُجِيزُ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ إِذَا تَابَ.
قَوْلُهُ: (وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) أَيِ الْخَلِيفَةُ الْمَشْهُورُ وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ، وَالْخَلَّالُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مُوسَى: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ وَمَعَهُ رَجُلٌ وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فَزَادَ مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute