للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

النَّبِيُّ عَلَى ذَلِكَ لِعُذْرِهِمْ فِي ظَنِّهِمْ، قَالَ: وَفِيهِ جَوَازُ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِالْمَصْلَحَةِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ الصَّرِيحِ إِذَا كَانَ سَبَقَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: حَلْ حَلْ فَزَجَرُوهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَلَمْ يُعَاتِبْهُمْ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ) زَادَ إِسْحَاقُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مَكَّةَ أَيْ حَبَسَهَا اللَّهُ ﷿ عَنْ دُخُولِ مَكَّةَ كَمَا حَبَسَ الْفِيلَ عَنْ دُخُولِهَا. وَقِصَّةُ الْفِيلِ مَشْهُورَةٌ سَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا فِي مَكَانِهَا، وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِهَا أَنَّ الصَّحَابَةَ لَوْ دَخَلُوا مَكَّةَ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ وَصَدَّهُمْ قُرَيْشٌ عَنْ ذَلِكَ لَوَقَعَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ قَدْ يُفْضِي إِلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ وَنَهْبِ الْأَمْوَالِ، كَمَا لَوْ قُدِّرَ دُخُولُ الْفِيلِ وَأَصْحَابِهِ مَكَّةَ، لَكِنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّهُ سَيَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ خَلْقٌ مِنْهُمْ، وَيُسْتَخْرَجُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ نَاسٌ يُسْلِمُونَ وَيُجَاهِدُونَ، وَكَانَ بِمَكَّةَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ جَمْعٌ كَثِيرٌ مُؤْمِنُونَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، فَلَوْ طَرَقَ الصَّحَابَةُ مَكَّةَ لَمَا أَمِنَ أَنْ يُصَابَ نَاسٌ مِنْهُمْ بِغَيْرِ عَمْدٍ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ﴾ الْآيَةَ، وَوَقَعَ لَلْمُهَلَّبِ اسْتِبْعَادُ جَوَازِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَهِيَ حَابِسُ الْفِيلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: الْمُرَادُ حَبَسَهَا أَمْرُ اللَّهِ ﷿، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ إِطْلَاقُ ذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ فَيُقَالُ حَبَسَهَا اللَّهُ حَابِسُ الْفِيلِ وَإِنَّمَا الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُمْنَعَ تَسْمِيَتُهُ حَابِسَ الْفِيلِ وَنَحْوَهُ، كَذَا أَجَابَ ابْنُ الْمُنِيرِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّ الْأَسْمَاءَ تَوْقِيفِيَّةٌ.

وَقَدْ تَوَسَّطَ الْغَزَالِيُّ وَطَائِفَةٌ فَقَالُوا: مَحَلُّ الْمَنْعِ مَا لَمْ يَرِدٍ نَصٌّ بِمَا يُشْتَقُّ مِنْهُ، بشَرْط أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ مُشْعِرًا بِنَقْصٍ، فَيَجُوزُ تَسْمِيَتُهُ الْوَاقِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ﴾ وَلَا يَجُوزُ تَسْمِيَتُهُ الْبِنَاءَ وَإِنْ وَرَدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾

وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ جَوَازُ التَّشْبِيهِ مِنَ الْجِهَةِ الْعَامَّةِ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْجِهَةُ الْخَاصَّةُ، لِأَنَّ أَصْحَابَ الْفِيلِ كَانُوا عَلَى بَاطِلٍ مَحْضٍ وَأَصْحَابُ هَذِهِ النَّاقَةِ كَانُوا عَلَى حَقٍّ مَحْضٍ، لَكِنْ جَاءَ التَّشْبِيهُ مِنْ جِهَةِ إِرَادَةِ اللَّهِ مَنْعَ الْحَرَمِ مُطْلَقًا، أَمَّا مِنْ أَهْلِ الْبَاطِلِ فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ فَلِلْمَعْنَى الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَفِيهِ ضَرْبُ الْمَثَلِ وَاعْتِبَارُ مَنْ بَقِيَ بِمَنْ مَضَى، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَى تَعْظِيمِ حُرُمَاتِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ تَرْكُ الْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ، وَالْجُنُوحُ إِلَى الْمُسَالَمَةِ وَالْكَفُّ عَنْ إِرَاقَةِ الدِّمَاءِ. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ لِمَنْ قَالَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ: عَلَامَةُ الْإِذْنِ التَّيْسِيرُ وَعَكْسُهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ.

قَوْلُهُ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) فِيهِ تَأْكِيدُ الْقَوْلِ بِالْيَمِينِ فَيَكُونُ أَدْعَى إِلَى الْقَبُولِ، وَقَدْ حُفِظَ عَنِ النَّبِيِّ الْحَلِفُ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ مَوْضِعًا قَالَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ.

قَوْلُهُ: (لَا يَسْأَلُونَنِي خُطَّةً) بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ خَصْلَةً (يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ) أَيْ مِنْ تَرْكِ الْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ يَسْأَلُونَنِي فِيهَا صِلَةَ الرَّحِمِ وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ حُرُمَاتِ اللَّهِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْحُرُمَاتِ حُرْمَةُ الْحَرَمِ وَالشَّهْرِ وَالْإِحْرَامِ، قُلْتُ: وَفِي الثَّالِثِ نَظَرٌ لِأَنَّهُمْ لَوْ عَظَّمُوا الْإِحْرَامَ مَا صَدُّوهُ.

قَوْلُهُ: (إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا) أَيْ أَجَبْتُهُمْ إِلَيْهَا، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: لَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَعَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهَا فِي كُلِّ حَالَةٍ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَانَ أَمْرًا وَاجِبًا حَتْمًا، فَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ، كَذَا قَالَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ فَقَالَ: ﴿إِنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ مَعَ تَحَقُّقِ وُقُوعِ ذَلِكَ تَعْلِيمًا وَإِرْشَادًا، فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ سَقَطَ مِنَ الرَّاوِي أَوْ كَانَتِ الْقِصَّةُ قَبْلَ نُزُولِ الْأَمْرِ بِذَلِكَ، وَلَا يُعَارِضُهُ كَوْنُ الْكَهْفِ مَكِّيَّةً؛ إِذْ لَا مَانِعَ أَنْ يَتَأَخَّرَ نُزُولُ بَعْضِ السُّورَةِ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ زَجَرَهَا) أَيِ النَّاقَةَ (فَوَثَبَتْ) أَيْ قَامَتْ.

قَوْلُهُ: (فَعَدَلَ عَنْهُمْ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ فَوَلَّى رَاجِعًا وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَقَالَ لِلنَّاسِ: انْزِلُوا. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بِالْوَادِ مِنْ مَاءٍ نَنْزِلُ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: (عَلَى ثَمَدٍ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَالْمِيمِ أَيْ حَفِيرَةٍ فِيهَا مَاءٌ مَثْمُودٌ أَيْ قَلِيلٌ، وَقَوْلُهُ: قَلِيلِ الْمَاءِ تَأْكِيدٌ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يُرَادَ لُغَةُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ