الْأَعْلَى، أَيْ إِنَّ لِي مِنَ الْقُوَّةِ بِاللَّهِ وَالْحَوْلِ بِهِ مَا يَقْتَضِي أَنْ أُقَاتِلَ عَنْ دِينِهِ لَوِ انْفَرَدَتْ، فَكَيْفَ لَا أُقَاتِلُ عَنْ دِينِهِ مَعَ وُجُودِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَتِهِمْ وَنَفَاذِ بَصَائِرِهِمْ فِي نَصْرِ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَلَيُنْفِذَنَّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ لَيُمْضِيَنَّ (اللَّهُ أَمْرَهُ) فِي نَصْرِ دِينِهِ. وَحَسُنَ الْإِتْيَانُ بِهَذَا الْجَزْمِ - بَعْدَ ذَلِكَ التَّرَدُّدِ - لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُورِدْهُ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ. وَفِي هَذَا الْفَصْلِ النَّدْبُ إِلَى صِلَةِ الرَّحِمِ، وَالْإِبْقَاءُ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا، وَبَذْلُ النَّصِيحَةِ لِلْقَرَابَةِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الْقُوَّةِ وَالثَّبَاتِ فِي تَنْفِيذِ حُكْمِ اللَّهِ وَتَبْلِيغِ أَمْرِهِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ بُدَيْلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ) أَيْ فَأَذِنَ لَهُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ) سَمَّى الْوَاقِدِيُّ مِنْهُمْ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ، وَالْحَكَمَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ.
قَوْلُهُ: (فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ) زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ فَقَالَ لَهُمْ بُدَيْلٌ: إِنَّكُمْ تَعْجَلُونَ عَلَى مُحَمَّدٍ، إِنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِقِتَالٍ، إِنَّمَا جَاءَ مُعْتَمِرًا. فَاتَّهَمُوهُ - أَيِ اتَّهَمُوا بُدَيْلًا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ مَيْلَهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالُوا إِنْ كَانَ كَمَا تَقُولُ فَلَا يَدْخُلُهَا عَلَيْنَا عشرة.
قَوْلُهُ: (فَقَامَ عُرْوَةُ) فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي الْإِكْلِيلِ وَالْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ وَذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَالُوا: لَمَّا نَزَلَ ﷺ بِالْحُدَيْبِيَةِ أَحَبَّ أَنْ يَبْعَثَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى قُرَيْشٍ يُعْلِمُهُمْ بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَدِمَ مُعْتَمِرًا، فَدَعَا عُمَرَ فَاعْتَذَرَ بِأَنَّهُ لَا عَشِيرَةَ لَهُ بِمَكَّةَ، فَدَعَا عُثْمَانَ فَأَرْسَلَهُ بِذَلِكَ. وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْلِمَ مَنْ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ الْفَرَجَ قَرِيبٌ، فَأَعْلَمَهُمْ عُثْمَانُ بِذَلِكَ، فَحَمَلَهُ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَلَى فَرَسِهِ - فَذَكَرَ الْقِصَّةَ - فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: هَنِيئًا لِعُثْمَانَ، خَلَصَ إِلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ دُونَنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِنَّ ظَنِّي بِهِ أَنْ لَا يَطُوفَ حَتَّى نَطُوفَ مَعًا. فَكَانَ كَذَلِكَ. قَالَ: ثُمَّ جَاءَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ مَجِيءَ عُرْوَةَ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَذَكَرَهَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَكَذَا أَبُو الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ قَبْلَ قِصَّةِ مَجِيءِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ) أَيِ ابْنِ مُعَتِّبٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ الْمَكْسُورَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ الثَّقَفِيُّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ عِنْدَ أَحْمَدَ، عُرْوَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مَسْعُودٍ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي السِّيرَةِ.
قَوْلُهُ: (أَلَسْتُمْ بِالْوَلَدِ وَأَلَسْتُ بِالْوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَى) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَلِغَيْرِهِ بِالْعَكْسِ أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ وَأَلَسْتُ بِالْوَلَدِ وَهُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ الَّذِي فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، وَابْنِ إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمَا، وَزَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ أُمَّ عُرْوَةَ هِيَ سُبَيْعَةُ بِنْتُ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، فَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ أَنَّكُمْ حَيٌّ قَدْ وَلَدُونِي فِي الْجُمْلَةِ لِكَوْنِ أُمِّي مِنْكُمْ. وَجَرَى بَعْضُ الشُّرَّاحِ عَلَى مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ فَقَالَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: أَلَسْتُمْ بِالْوَلَدِ أَيْ أَنْتُمْ عِنْدِي فِي الشَّفَقَةِ وَالنُّصْحِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ، قَالَ: وَلَعَلَّهُ كَانَ يُخَاطِبُ بِذَلِكَ قَوْمًا هُوَ أَسَنُّ مِنْهُمْ.
قَوْلُهُ: (اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظَ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْكَافِ وَآخِرُهُ مُعْجَمَةٌ أَيْ دَعَوْتُهُمْ إِلَى نَصْرِكُمْ.
قَوْلُهُ: (فَلَمَّا بَلَّحُوا) بِالْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ مَضْمُومَةٍ أَيِ امْتَنَعُوا، وَالتَّبَلُّحُ التَّمَنُّعُ مِنَ الْإِجَابَةِ، وَبَلَّحَ الْغَرِيمُ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَقَالُوا صَدَقْتَ، مَا أَنْتَ عِنْدَنَا بِمُتَّهَمٍ.
قَوْلُهُ: (قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لَكُمْ. (خُطَّةَ رُشْدٍ) بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ، وَالرُّشْدُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَبِفَتْحِهِمَا، أَيْ خَصْلَةَ خَيْرٍ وَصَلَاحٍ وَإِنْصَافٍ، وَبَيَّنَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّ سَبَبَ تَقْدِيمِ عُرْوَةَ لِهَذَا الْكَلَامِ عِنْدَ قُرَيْشٍ مَا رَآهُ مِنْ رَدِّهُمُ الْعَنِيفِ عَلَى مَنْ يَجِيءُ مِنْ عِنْدِ الْمُسْلِمِينَ.
قَوْلُهُ: (وَدَعُونِي آتِهِ) بِالْمَدِّ، وَهُوَ مَجْزُومٌ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، وَأَصْلُهُ أَئْتِهِ أَيْ أَجِيءُ إِلَيْهِ (قَالُوا ائْتِهِ) بِأَلِفِ وَصْلٍ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ مُثَنَّاةٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ هَاءٌ سَاكِنَةٌ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا.
قَوْلُهُ: (نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ) زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ يُرِيدُ حَرْبًا.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ) أَيْ عِنْدَ قَوْلِهِ: