هَذَا مِمَّا يُقَوِّي أَنَّ الَّذِي حَدَّثَ الْمِسْوَرَ، وَمَرْوَانَ بِقِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ هُوَ عُمَرُ، وَكَذَا مَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا مِنْ قِصَّةِ عُمَرَ مَعَ أَبِي جَنْدَلٍ.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى) زَادَ الْوَاقِدِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ عُمَرُ: لَقَدْ دَخَلَنِي أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَرَاجَعْتُ النَّبِيَّ ﷺ مُرَاجَعَةً مَا رَاجَعْتُهُ مِثْلَهَا قَطُّ. وَفِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ الْآتِي فِي الْجِزْيَةِ وَسُورَةِ الْفَتْحِ. فَقَالَ عُمَرُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتَلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ - بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ - فِي دِينِنَا، وَنَرْجِعُ وَلَمْ يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ. فَرَجَعَ مُتَغَيِّظًا، فَلَمْ يَصْبِرْ حَتَّى جَاءَ أَبَا بَكْرٍ، وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ نَفْسِهِ مُخْتَصَرًا وَلَفْظُهُ. فَقَالَ عُمَرُ: اتِّهِمُوا الرَّأْيَ عَلَى الدِّينِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَرُدُّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِرَأْيٍ، وَمَا أَلوت عَنِ الْحَقِّ وَفِيهِ: قَالَ: فَرَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَبَيْتُ، حَتَّى قَالَ لِي: يَا عُمَرُ، تَرَانِي رَضِيتُ وَتَأْبَى.
قَوْلُهُ: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ) ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ ﷺ لَمْ يَفْعَلْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إِلَّا بِالْوَحْيِ.
قَوْلُهُ: (أَوَلَيْسَ كُنْتَ حَدَّثْتَنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ كَانَ الصَّحَابَةُ لَا يَشُكُّونَ فِي الْفَتْحِ لِرُؤْيَا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَلَمَّا رَأَوُا الصُّلْحَ دَخَلَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ حَتَّى كَادُوا يَهْلِكُونَ. وَعِنْدَ الْوَاقِدِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ رَأَى فِي مَنَامِهِ أَنْ يَعْتَمِرَ أَنَّهُ دَخَلَ هُوَ وَأَصْحَابِهِ الْبَيْتَ، فَلَمَّا رَأَوْا تَأْخِيرَ ذَلِكَ شَقَّ عَلَيْهِمْ وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ جَوَازُ الْبَحْثِ فِي الْعِلْمِ حَتَّى يَظْهَرَ الْمَعْنَى، وَأَنَّ الْكَلَامَ يُحْمَلُ عَلَى عُمُومِهِ وَإِطْلَاقِهِ حَتَّى تَظْهَرَ إِرَادَةُ التَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ، وَأَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ وَلَمْ يَذْكُرْ مُدَّةً مُعَيَّنَةً لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى تَنْقَضِيَ أَيَّامُ حَيَاتِهِ.
قَوْلُهُ: (فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ) لَمْ يَذْكُرْ عُمَرُ أَنَّهُ رَاجَعَ أَحَدًا فِي ذَلِكَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَذَلِكَ لِجَلَالَةِ قَدْرِهِ وَسَعَةِ عِلْمِهِ عِنْدَهُ، وَفِي جَوَابِ أَبِي بَكْرٍ، لِعُمَرَ بِنَظِيرِ مَا أَجَابَهُ النَّبِيُّ ﷺ سَوَاءً دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَكْمَلَ الصَّحَابَةِ وَأَعْرَفَهُمْ بِأَحْوَالِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَعْلَمَهُمْ بِأُمُورِ الدِّينِ وَأَشَدَّهُمْ مُوَافَقَةً لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ اسْتَنْكَرُوا الصُّلْحَ الْمَذْكُورَ، وَكَانُوا عَلَى رَأْيِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ، وَظَهَرَ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الصِّدِّيقَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مُوَافِقًا لَهُمْ، بَلْ كَانَ قَلْبُهُ عَلَى قَلْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ سَوَاءً، وَسَيَأْتِي فِي الْهِجْرَةِ أَنَّ ابْنَ الدَّغِنَةِ وَصَفَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بِنَظِيرِ مَا وَصَفَتْ بِهِ خَدِيجَةُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سَوَاءً؛ مِنْ كَوْنِهِ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيَحْمِلُ الْكَلَّ وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَتْ صِفَاتُهُمَا مُتَشَابِهَةً مِنْ الِابْتِدَاءِ اسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى الِانْتِهَاءِ. وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ: فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ هُوَ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، بَعْدَهَا زَايٌ، وَهُوَ - أَيِ الْغَرْزُ - لِلْإِبِلِ بِمَنْزِلَةِ الرَّكْبِ لِلْفَرَسِ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّمَسُّكُ بِأَمْرِهِ وَتَرْكُ الْمُخَالَفَةِ لَهُ كَالَّذِي يُمْسِكُ بِرَكْبِ الْفَارِسِ فَلَا يُفَارِقُهُ.
قَوْلُهُ: (قَالَ الزُّهْرِيُّ: قَالَ عُمَرُ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالًا) هُوَ مَوْصُولٌ إِلَى الزُّهْرِيِّ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ بَيْنَ الزُّهْرِيِّ، وَعُمَرَ، قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: قَوْلُهُ أَعْمَالًا أَيْ مِنَ الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ وَالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَكًّا مِنْ عُمَرَ، بَلْ طَلَبًا لِكَشْفِ مَا خَفِيَ عَلَيْهِ، وَحَثًّا عَلَى إِذْلَالِ الْكُفَّارِ، لِمَا عُرِفَ مِنْ قُوَّتِهِ فِي نُصْرَةِ الدِّينِ اهـ. وَتَفْسِيرِ الْأَعْمَالِ بِمَا ذُكِرَ مَرْدُودٌ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ لِيُكَفِّرَ عَنْهُ مَا مَضَى مِنَ التَّوَقُّفِ فِي الِامْتِثَالِ ابْتِدَاءً، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عُمَرَ التَّصْرِيحُ بِمُرَادِهِ بِقَوْلِهِ: أَعْمَالًا: فَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: مَا زِلْتُ أَتَصَدَّقُ وَأَصُومُ وَأُصَلِّي وَأُعْتِقُ مِنَ الَّذِي صَنَعْتُ يَوْمَئِذٍ مَخَافَةَ كَلَامِي الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ وَعِنْدَ الْوَاقِدِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ عُمَرُ: لَقَدْ أَعْتَقْتُ بِسَبَبِ ذَلِكَ رِقَابًا، وَصُمْتُ دَهْرًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَمْ يَكُنْ شَكًّا فَإِنْ أَرَادَ نَفْيَ الشَّكِّ فِي الدِّينِ فَوَاضِحٌ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا قَالَ لَهُ: الْزَمْ غَرْزَهُ فَإِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute