صَحِيحَانِ صُورِيَّانِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا مَعْنَى لِلشَّرْطِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ لَا جَوَابَ لَهُ وَيَبْقَى خَيْرٌ لَا رَافِعَ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: سَمِعْنَاهُ مِنْ رُوَاةِ الْحَدِيثِ بِالْكَسْرِ، وَأَنْكَرَهُ شَيْخُنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ - يَعْنِي ابْنَ الْخَشَّابِ - وَقَالَ: لَا يَجُوزُ الْكَسْرُ لِأَنَّهُ لَا جَوَابَ لَهُ لِخُلُوِّ لَفْظِ خَيْرٍ مِنَ الْفَاءِ وَغَيْرِهَا مِمَّا اشْتُرِطَ فِي الْجَوَابِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ تَقْدِيرِهِ وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: جَزَاءُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ: خَيْرٌ أَيْ فَهُوَ خَيْرٌ، وحَذْفُ الْفَاءِ جَائِزٌ وَهُوَ كَقِرَاءَةِ طَاوُسٍ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ أَصْلِحْ لَهُمْ خَيْرٌ قَالَ: وَمَنْ خَصَّ ذَلِكَ بِالشِّعْرِ بَعُدَ عَنِ التَّحْقِيقِ، وَضَيَّقَ حَيْثُ لَا تَضيقَ، لِأَنَّهُ كَثِيرٌ فِي الشِّعْرِ قَلِيلٌ فِي غَيْرِهِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا وَقَعَ فِي الشِّعْرِ فِيمَا أَنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ:
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا
أَيْ فَاللَّهُ يَشْكُرُهَا، وَإِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالشِّعْرِ قَالَ: وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ اللُّقَطَةِ: فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا اسْتَمْتِعْ بِهَا بِحَذْفِ الْفَاءِ، وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ اللِّعَانِ: الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ.
قَوْلُهُ: (وَرَثَتَكَ) قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: إِنَّمَا عَبَّرَ لَهُ ﷺ بِلَفْظِ الْوَرَثَةِ، وَلَمْ يَقُلْ أَنْ تَدَعَ بِنْتَكَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ لِكَوْنِ الْوَارِثِ حِينَئِذٍ لَمْ يَتَحَقَّقْ، لِأَنَّ سَعْدًا إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَوْتِهِ فِي ذَلِكَ الْمَرَضِ وَبَقَائِهَا بَعْدَهُ حَتَّى تَرِثَهُ، وَكَانَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ تَمُوتَ هِيَ قَبْلَهُ فَأَجَابَ ﷺ بِكَلَامٍ كُلِّيٍّ مُطَابِقٍ لِكُلِّ حَالَةٍ وَهو قَوْلُهُ: وَرَثَتَكَ وَلَمْ يَخُصَّ بِنْتًا مِنْ غَيْرِهَا، وَقَالَ الْفَاكِهِيُّ شَارِحُ الْعُمْدَةِ: إِنَّمَا عَبَّرَ ﷺ بِالْوَرَثَةِ لِأَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى أَنَّ سَعْدًا سَيَعِيشُ وَيَأْتِيهِ أَوْلَادٌ غَيْرُ الْبِنْتِ الْمَذْكُورَةِ فَكَانَ كَذَلِكَ، وَوُلِدَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ بَنِينَ وَلَا أَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَفْتَحَ بِذَلِكَ.
قُلْتُ: وَلَيْسَ قَوْلُهُ: أَنْ تَدَعَ بِنْتَكَ مُتَعَيِّنًا لِأَنَّ مِيرَاثَهُ لَمْ يَكُنْ مُنْحَصِرًا فِيهَا، فَقَدْ كَانَ لِأَخِيهِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَوْلَادٌ إِذْ ذَاكَ، مِنْهُمْ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ الصَّحَابِيُّ الَّذِي قُتِلَ بِصِفِّينَ وَسَأَذْكُرُ بَسْطَ ذَلِكَ، فَجَازَ التَّعْبِيرُ بِالْوَرَثَةِ لِتَدْخُلَ الْبِنْتُ وَغَيْرُهَا مِمَّنْ يَرِثُ لَوْ وَقَعَ مَوْتُهُ إِذْ ذَاكَ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ. وأَمَّا قَوْلُ الْفَاكِهِيِّ: إِنَّهُ وُلِدَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ بَنِينَ، وَإِنَّهُ لَا يَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ فَفِيهِ قُصُورٌ شَدِيدٌ، فَإِنَّ أَسْمَاءَهُمْ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَامِرٍ، وَمُصْعَبٍ وَمُحَمَّدٍ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ سَعْدٍ وَوَقَعَ ذِكْرُ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ فِيهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَمَّا وَقَعَ ذِكْرُ هَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ مُسْلِمٍ اقْتَصَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَلَى ذِكْرِ الثَّلَاثَةِ، وَوَقَعَ فِي كَلَامِ بَعْضِ شُيُوخِنَا تَعَقُّبٌ عَلَيْهِ بِأَنَّ لَهُ أَرْبَعَةً مِنَ الذُّكُورِ غَيْرَ الثَّلَاثَةِ، وَهُمْ عُمَرُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَيَحْيَى، وَإِسْحَاقُ، وَعَزَا ذِكْرَهُمْ لِابْنِ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرِهِ، وَفَاتَهُ أَنَّ ابْنَ سَعْدٍ ذَكَرَ لَهُ مِنَ الذُّكُورِ غَيْرَ السَّبْعَةِ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ وَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَعَمْرٌو، وَعِمْرَانُ، وَصَالِحٌ، وَعُثْمَانُ، وَإِسْحَاقُ الْأَصْغَرُ، وَعُمَرُ الْأَصْغَرُ، وَعُمَيْرٌ مُصَغَّرًا وَغَيْرُهُمْ، وَذَكَرَ لَهُ مِنَ الْبَنَاتِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ بِنْتًا. وَكَأَنَّ ابْنَ الْمَدِينِيِّ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ مَنْ رَوَى الْحَدِيثَ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (عَالَةً) أَيْ فُقَرَاءَ وَهُوَ جَمْعُ عَالٍ وَهُوَ الْفَقِيرُ وَالْفِعْلُ مِنْهُ يَعِيلُ إِذَا افْتَقَرَ.
قَوْلُهُ: (يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ) أَيْ يَسْأَلُونَ النَّاسَ بِأَكُفِّهِمْ، يُقَالُ تَكَفَّفَ النَّاسَ وَاسْتَكَفَّ إِذَا بَسَطَ كَفَّهُ لِلسُّؤَالِ، أَوْ سَأَلَ مَا يَكُفُّ عَنْهُ الْجُوعَ، أَوْ سَأَلَ كَفًّا كَفًّا مِنْ طَعَامٍ.
وَقَوْلُهُ: فِي أَيْدِيهِمْ أَيْ بِأَيْدِيهِمْ أَوْ سَأَلُوا بِأَكُفِّهِمْ وَضْعَ الْمَسْئُولِ فِي أَيْدِيهِمْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ سَعْدًا قَالَ: وَأَنَا ذُو مَالٍ وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ فِي الطِّبِّ، وَهَذَا اللَّفْظُ يُؤْذِنُ بِمَالٍ كَثِيرٍ، وَذُو الْمَالِ إِذَا تَصَدَّقَ بِثُلُثِهِ أَوْ بِشَطْرِهِ وَأَبْقَى ثُلُثَهُ بَيْنَ ابْنَتِهِ وَغَيْرِهَا لَا يَصِيرُونَ عَالَةً، لَكِنَّ الْجَوَابَ أَنَّ ذَلِكَ خَرَجَ عَلَى التَّقْدِيرِ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْمَالِ الْكَثِيرِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ، وَإِلَّا فَلَوْ تَصَدَّقَ الْمَرِيضُ بِثُلُثَيْهِ مَثَلًا ثُمَّ طَالَتْ حَيَاتُهُ وَنَقَصَ وَفَنِيَ الْمَالُ فَقَدْ تُجْحِفُ الْوَصِيَّةُ بِالْوَرَثَةِ، فَرَدَّ الشَّارِعُ الْأَمْرَ إِلَى شَيْءٍ مُعْتَدِلٍ وَهُوَ الثُّلُثُ.
قَوْلُهُ: (وَإِنَّكَ مَهْمَا أَنْفَقْتَ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَهُوَ عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْوَصِيَّةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute