لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنَ النَّسَّابِينَ لِسَعْدٍ بِنْتًا تُسَمَّى عَائِشَةَ غَيْرَ هَذِهِ، وَذَكَرُوا أَنَّ أَكْبَرَ بَنَاتِهِ أُمُّ الْحَكَمِ الْكُبْرَى، وَأُمُّهَا بِنْتُ شِهَابِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ، وَذَكَرُوا لَهُ بَنَاتٍ أُخْرَى أُمَّهَاتُهُنَّ مُتَأَخِّرَاتُ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْوَفَاةِ النَّبَوِيَّةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبِنْتَ الْمُشَارَ إِلَيْهَا هِيَ أُمُّ الْحَكَمِ الْمَذْكُورَةُ لِتَقَدُّمِ تَزْوِيجِ سَعْدٍ بِأُمِّهَا، وَلَمْ أَرَ مَنْ حَرَّرَ ذَلِكَ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ مَشْرُوعِيَّةُ زِيَارَةِ الْمَرِيضِ لِلْإِمَامِ فَمَنْ دُونَهُ، وَتَتَأَكَّدُ بِاشْتِدَادِ الْمَرَضِ، وَفِيهِ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى جَبْهَةِ الْمَرِيضِ وَمَسْحُ وَجْهِهِ وَمَسْحُ الْعُضْوِ الَّذِي يُؤْلِمُهُ وَالْفَسْحُ لَهُ فِي طُولِ الْعُمْرِ، وَجَوَازُ إِخْبَارِ الْمَرِيضِ بِشِدَّةِ مَرَضِهِ وَقُوَّةِ أَلَمِهِ إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِذَلِكَ شَيْءٌ مِمَّا يُمْنَعُ أَوْ يُكْرَهُ مِنَ التَّبَرُّمِ وَعَدَمِ الرِّضَا، بَلْ حَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ لِطَلَبِ دُعَاءٍ أَوْ دَوَاءٍ، وَرُبَّمَا اسْتُحِبَّ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي الِاتِّصَافَ بِالصَّبْرِ الْمَحْمُودِ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الْمَرَضِ كَانَ الْإِخْبَارُ بِهِ بَعْدَ الْبُرْءِ أَجْوَزُ، وَأَنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ وَالطَّاعَةِ إِذَا كَانَ مِنْهَا مَا لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ قَامَ غَيْرُهُ فِي الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ مَقَامَهُ، وَرُبَّمَا زَادَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ سَعْدًا خَافَ أَنْ يَمُوتَ بِالدَّارِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا فَيَفُوتُ عَلَيْهِ بَعْضُ أَجْرِ هِجْرَتِهِ، فَأَخْبَرَهُ النبي ﷺ بِأَنَّهُ إِنْ تَخَلَّفَ عَنْ دَارِ هِجْرَتِهِ فَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا مِنْ حَجٍّ أَوْ جِهَادٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَانَ لَهُ بِهِ أَجْرٌ يُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ مِنَ الْجِهَةِ الْأُخْرَى، وَفِيهِ إِبَاحَةُ جَمْعِ الْمَالِ بِشَرْطِهِ لِأَنَّ التَّنْوِينَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَا ذُو مَالٍ لِلْكَثْرَةِ وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ صَرِيحًا وَأَنَا ذُو مَالٍ كَثِيرٍ وَالْحَثُّ عَلَى صِلَةِ الرَّحِمِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْأَقَارِبِ، وَأَنَّ صِلَةَ الْأَقْرَبِ أَفْضَلُ مِنْ صِلَةِ الْأَبْعَدِ، وَالْإِنْفَاقُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ؛ لِأَنَّ الْمُبَاحَ إِذَا قُصِدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ صَارَ طَاعَةً ; وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِأَقَلِّ الْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْعَادِيَّةِ وَهُوَ وَضْعُ اللُّقْمَةِ فِي فَمِ
الزَّوْجَةِ؛ إِذْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ غَالِبًا إِلَّا عِنْدَ الْمُلَاعَبَةِ وَالْمُمَازَحَةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَيُؤْجَرُ فَاعِلُهُ إِذَا قَصَدَ بِهِ قَصْدًا صَحِيحًا، فَكَيْفَ بِمَا هُوَ فَوْقَ ذَلِكَ.
وَفِيهِ مَنْعُ نَقْلِ الْمَيِّتِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ؛ إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوعًا لَأَمَرَ بِنَقْلِ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَبِأَنَّ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ تَجُوزُ لَهُ الْوَصِيَّةُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، فَمَفْهُومُهُ أَنَّ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ لَا يُبَالِي بِالْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتْرُكُ وَرَثَةً يَخْشَى عَلَيْهِمُ الْفَقْرَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ تَعْلِيلًا مَحْضًا وَإِنَّمَا فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْأَحَظِّ الْأَنْفَعِ، وَلَوْ كَانَ تَعْلِيلًا مَحْضًا لَاقْتَضَى جَوَازَ الْوَصِيَّةِ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ لِمَنْ كَانَتْ وَرَثَتُهُ أَغْنِيَاءَ، وَلَنَفَذَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ إِجَازَتِهِمْ وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا مَحْضًا فَهُوَ لِلنَّقْصِ عَنِ الثُّلُثِ لَا لِلزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا شُرِعَ الْإِيصَاءُ بِالثُّلُثِ وَأَنَّهُ لَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى الْمُوصِي إِلَّا أَنَّ الِانْحِطَاطَ عَنْهُ أَوْلَى، وَلَا سِيَّمَا لِمَنْ يَتْرُكُ وَرَثَةً غَيْرَ أَغْنِيَاءَ، فَنَبَّهَ سَعْدًا عَلَى ذَلِكَ. وَفِيهِ سَدُّ الذَّرِيعَةِ لِقَوْلِهِ ﷺ: وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ لِئَلَّا يَتَذَرَّعَ بِالْمَرَضِ أَحَدٌ لِأَجْلِ حُبِّ الْوَطَنِ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
وَفِيهِ تَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ ﷾: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ فَأَطْلَقَ، وَقَيَّدَتِ السُّنَّةُ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ، وَأَنَّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ لَا يَنْبَغِي لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْهُ مُخْتَارًا، وَفِيهِ التَّأَسُّفُ عَلَى فَوْتِ مَا يُحَصِّلُ الثَّوَابَ، وَفِيهِ حَدِيثُ مَنْ سَاءَتْهُ سَيِّئَةٌ وَأَنَّ مَنْ فَاتَهُ ذَلِكَ بَادَرَ إِلَى جَبْرِهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَفِيهِ تَسْلِيَةُ مَنْ فَاتَهُ أَمْرٌ مِنَ الْأُمُورِ بِتَحْصِيلِ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ لِمَا أَشَارَ ﷺ لِسَعْدٍ مِنْ عَمَلِهِ الصَّالِحِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَفِيهِ جَوَازُ التَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ الْمَالِ لِمَنْ عُرِفَ بِالصَّبْرِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ.
وَفِيهِ الِاسْتِفْسَارُ عَنِ الْمُحْتَمَلِ إِذَا احْتَمَلَ وُجُوهًا؛ لِأَنَّ سَعْدًا لَمَّا مُنِعَ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ احْتَمَلَ عِنْدَهُ الْمَنْعَ فِيمَا دُونَهُ وَالْجَوَازَ فَاسْتَفْسَرَ عَمَّا دُونَ ذَلِكَ.
وَفِيهِ النَّظَرُ فِي مَصَالِحِ الْوَرَثَةِ، وَأَنَّ خِطَابَ الشَّارِعِ لِلْوَاحِدِ يَعُمُّ مَنْ كَانَ بِصِفَتِهِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ لِإِطْبَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِحَدِيثِ سَعْدٍ هَذَا، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ إِنَّمَا وَقَعَ لَهُ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ، وَلَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute