وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ، وَقَدِ اشْتَهَرَ تَمَدُّحُ النَّبِيِّ ﷺ بِحِلِّ الْغَنِيمَةِ وَجَعْلِهَا مِنْ فَضَائِلِ أُمَّتِهِ، فَلَوْ كَانَتْ تَنْقُصُ الْأَجْرَ مَا وَقَعَ التَّمَدُّحُ بِهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ أَجْرُ أَهْلِ بَدْرٍ أَنْقَصَ مِنْ أَجْرِ أَهْلِ أُحُدٍ مَثَلًا مَعَ أَنَّ أَهْلَ بَدْرٍ أَفْضَلُ بِالِاتِّفَاقِ. وَسَبَقَ إِلَى هَذَا الْإِشْكَالِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَحَكَاهُ عِيَاضٌ وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ ضَعَّفَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ حُمَيْدِ بْنِ هَانِئٍ وَلَيْسَ بِمَشْهُورٍ، وَهَذَا مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ ثِقَةٌ يُحْتَجُّ بِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَقَدْ وَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ يُونُسَ وَغَيْرُهُمَا وَلَا يُعْرَفُ فِيهِ تَجْرِيحٌ لِأَحَدٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ نَقْصَ الْأَجْرِ عَلَى غَنِيمَةٍ أُخِذَتْ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، وَظُهُورُ فَسَادِ هَذَا الْوَجْهِ يُغْنِي عَنِ الْإِطْنَابِ فِي رَدِّهِ، إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ ثُلُثُ الْأَجْرِ وَلَا أَقَلُّ مِنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ نَقْصَ الْأَجْرِ عَلَى مَنْ قَصَدَ الْغَنِيمَةَ فِي ابْتِدَاءِ جِهَادِهِ وَحَمَلَ تَمَامَهُ عَلَى مَنْ قَصَدَ الْجِهَادَ مَحْضًا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ صَدْرَ الْحَدِيثِ مُصَرِّحٌ بِأَنَّ الْمُقَسَّمَ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ أَخْلَصَ لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي.
وَقَالَ عِيَاضٌ: الْوَجْهُ عِنْدِي إِجْرَاءُ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِمَا وَاسْتِعْمَالُهُمَا عَلَى وَجْهِهِمَا. وَلَمْ يُجِبْ عَنِ الْإِشْكَالِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَهْلِ بَدْرٍ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، بَلِ الْحُكْمُ فِيهِمَا جَارٍ عَلَى الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْأُجُورَ تَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ زِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ فِيمَا كَانَ أَجْرُهُ بِحَسَبِ مَشَقَّتِهِ، إِذْ لِلْمَشَقَّةِ دُخُولٌ فِي الْأَجْرِ، وَإِنَّمَا الْمُشْكِلُ الْعَمَلُ الْمُتَّصِلُ بِأَخْذِ الْغَنَائِمِ، يَعْنِي فَلَوْ كَانَتْ تَنْقُصُ الْأَجْرَ لَمَا كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يُثَابِرُونَ عَلَيْهَا، فَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ أَخْذَهَا مِنْ جِهَةِ تَقْدِيمِ بَعْضِ الْمَصَالِحِ الْجُزْئِيَّةِ عَلَى بَعْضٍ لِأَنَّ أَخْذَ الْغَنَائِمِ أَوَّلَ مَا شُرِعَ كَانَ عَوْنًا عَلَى الدِّينِ وَقُوَّةً لِضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ مَصْلَحَةٌ عُظْمَى يُغْتَفَرُ لَهَا بَعْضُ النَّقْصِ فِي الْأَجْرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّنِ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ بِحَالِ أَهْلِ بَدْرٍ فَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّقَابُلُ بَيْنَ كَمَالِ الْأَجْرِ وَنُقْصَانِهِ لِمَنْ يَغْزُو بِنَفْسِهِ إِذَا لَمْ يَغْنَمْ أَوْ يَغْزُو فَيَغْنَمُ، فَغَايَتُهُ أَنَّ حَالَ أَهْلِ بَدْرٍ مَثَلًا عِنْدَ عَدَمِ الْغَنِيمَةِ أَفْضَلُ مِنْهُ عِنْدَ وُجُودِهَا وَلَا يَنْفِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ حَالُهُمْ أَفْضَلَ مِنْ حَالِ غَيْرِهِمْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِمْ نَصٌّ أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَغْنَمُوا كَانَ أَجْرُهُمْ بِحَالِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ مَغْفُورًا لَهُمْ وَأَنَّهُمْ أَفْضَلُ الْمُجَاهِدِينَ أَنْ لَا يَكُونَ وَرَاءَهُمْ مَرْتَبَةٌ أُخْرَى.
وَأَمَّا الِاعْتِرَاضُ بِحِلِّ الْغَنَائِمِ فَغَيْرُ وَارِدٍ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنِ الْحِلِّ ثُبُوتُ وَفَاءِ الْأَجْرِ لِكُلِّ غَازٍ، وَالْمُبَاحُ فِي الْأَصْلِ لَا يَسْتَلْزِمُ الثَّوَابَ بِنَفْسِهِ، لَكِنْ ثَبَتَ أَنَّ أَخْذَ الْغَنِيمَةِ وَاسْتِيلَاءَهَا مِنِ الْكُفَّارِ يَحْصُلُ الثَّوَابُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَمَعَ صِحَّةِ ثُبُوتِ الْفَضْلِ فِي أَخْذِ الْغَنِيمَةِ وَصِحَّةِ التَّمَدُّحِ بِأَخْذِهَا لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ غَازٍ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ أَجْرِ غَزَاتِهِ نَظِيرُ مَنْ لَمْ يَغْنَمْ شَيْئًا الْبَتَّةَ قُلْتُ: وَالَّذِي مَثَّلَ بِأَهْلِ بَدْرٍ أَرَادَ التَّهْوِيلَ، وَإِلَّا فَالْأَمْرُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ آخِرًا بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِمْ مَعَ أَخْذِ الْغَنِيمَةِ أَنْقَصَ أَجْرًا مِمَّا لَوْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ أَجْرُ الْغَنِيمَةِ أَنْ يَكُونُوا فِي حَالِ أَخْذِهِمُ الْغَنِيمَةَ مَفْضُولِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ كَمَنْ شَهِدَ أُحُدًا لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَغْنَمُوا شَيْئًا بَلْ أَجْرُ الْبَدْرِيِّ فِي الْأَصْلِ أَضْعَافُ أَجْرِ مَنْ بَعْدَهُ.
مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لَوْ فُرِضَ أَنَّ أَجْرَ الْبَدْرِيِّ بِغَيْرِ غَنِيمَةٍ سِتُّمِائَةٍ وَأَجْرَ الْأُحُدِيِّ مَثَلًا بِغَيْرِ غَنِيمَةٍ مِائَةٌ، فَإِذَا نَسَبْنَا ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو كَانَ لِلْبَدْرِيِّ لِكَوْنِهِ أَخَذَ الْغَنِيمَةَ مِائَتَانِ وَهِيَ ثُلُثُ السِّتِّمِائَةِ فَيَكُونُ أَكْثَرَ أَجْرًا مِنَ الْأُحُدِيِّ، وَإِنَّمَا امْتَازَ أَهْلُ بَدْرٍ بِذَلِكَ لِكَوْنِهَا أَوَّلَ غَزْوَةٍ شَهِدَهَا النَّبِيُّ ﷺ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ وَكَانَ مَبْدَأَ اشْتِهَارِ الْإِسْلَامِ وَقُوَّةَ أَهْلِهِ، فَكَانَ لِمَنْ شَهِدَهَا مِثْلُ أَجْرِ مَنْ شَهِدَ الْمَغَازِيَ الَّتِي بَعْدَهَا جَمِيعًا، فَصَارَتْ لَا يُوَازِيهَا شَيْءٌ فِي الْفَضْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاخْتَارَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الْمُرَادَ بِنَقْصِ أَجْرِ مَنْ غَنِمَ أَنَّ الَّذِي لَا يَغْنَمُ يَزْدَادُ أَجْرُهُ لِحُزْنِهِ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ، كَمَا يُؤْجَرُ مَنْ أُصِيبَ بِمَا لَهُ فَكَانَ الْأَجْرُ لِمَا نَقَصَ عَنِ الْمُضَاعَفَةِ بِسَبَبِ الْغَنِيمَةِ عِنْدَ ذَلِكَ كَالنَّقْصِ مِنْ أَصْلِ الْأَجْرِ، وَلَا يَخْفَى مُبَايَنَةُ هَذَا التَّأْوِيلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute