للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

الْمُدَّةِ الَّتِي أَخَّرَ فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَسْمَ التَّرِكَةِ اسْتِبْرَاءً لِلدَّيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا التَّوْجِيهُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ لِعَدَمِ تَكَلُّفِهِ وَتَبْقِيَةِ الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ عَلَى وَجْهِهَا، وَقَدْ تَلَقَّاهُ الْكِرْمَانِيُّ فَذَكَرَ مُلَخَّصًا وَلَمْ يَنْسُبْهُ لِقَائِلِهِ وَلَعَلَّهُ مِنْ تَوَارُدِ الْخَوَاطِرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي النَّسَبِ فِي تَرْجَمَةِ عَاتِكَةَ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ صَالَحَ عَاتِكَةَ بِنْتِ زَيْدٍ عَنْ نَصِيبِهَا مِنَ الثُّمُنِ عَلَى ثَمَانِينَ أَلْفًا فَقَدِ اسْتَشْكَلَهُ الدِّمْيَاطِيُّ وَقَالَ: بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا فِي الصَّحِيحِ بَوْنٌ بَعِيدٌ، وَالْعَجَبُ مِنَ الزُّبَيْرِ كَيْفَ مَا تَصَدَّى لِتَحْرِيرِ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ الْقَدْرُ الَّذِي صُولِحَتْ بِهِ قَدْرَ ثُلُثَيِ الْعُشْرِ مِنَ اسْتِحْقَاقِهَا وَكَانَ ذَلِكَ بِرِضَاهَا، وَرَدَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بَقِيَّةَ اسْتِحْقَاقِهَا عَلَى مَنْ صَالَحَهَا لَهُ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَصْلَ الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قِيمَةُ مَا تَرَكَ الزُّبَيْرُ أَحَدٌ وَخَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفٍ فَلَا يُعَارِضُ مَا تَقَدَّمَ لِعَدَمِ تَحْرِيرِهِ، وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: قُسِمَ مَالُ الزُّبَيْرِ عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفَ أَلْفٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى إِلْغَاءِ الْكَسْرِ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ نَدْبُ الْوَصِيَّةِ عِنْدَ حُضُورِ أَمْرٍ يُخْشَى مِنْهُ الْفَوْتُ، وَأَنَّ لِلْوَصِيِّ تَأْخِيرُ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ حَتَّى تُوَفَّى دُيُونُ الْمَيِّتِ وَتُنَفَّذَ وَصَايَاهُ إِنْ كَانَ لَهُ ثُلُثٌ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَبْرِئَ أَمْرَ الدُّيُونِ وَأَصْحَابَهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَأَنْ يُؤَخِّرَهَا بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَإِلَّا فَمَنْ طَلَبَ الْقِسْمَةَ بَعْدَ وَفَاءِ الدَّيْنِ الَّذِي وَقَعَ الْعِلْمُ بِهِ وَصَمَّمَ عَلَيْهَا أُجِيبَ إِلَيْهَا وَلَمْ يُتَرَبَّصْ بِهِ انْتِظَارُ شَيْءٍ مُتَوَهَّمٍ، فَإِذَا ثَبَتَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ اسْتُعِيدَ مِنْهُ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ ضَعْفُ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ لِمَالِكٍ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ أَجَلَ الْمَفْقُودِ أَرْبَعُ سِنِينَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ إِنَّمَا اخْتَارَ التَّأْخِيرَ أَرْبَعَ سِنِينَ لِأَنَّ الْمُدُنَ الْوَاسِعَةَ الَّتِي يُؤْتَى الْحِجَازُ مِنْ جِهَتِهَا إِذْ ذَاكَ كَانَتْ أَرْبَعًا: الْيَمَنُ وَالْعِرَاقُ وَالشَّامُ وَمِصْرُ، فَبَنَى عَلَى أَنَّ كُلَّ قُطْرٍ لَا يَتَأَخَّرُ أَهْلُهُ فِي الْغَالِبِ عَنِ الْحَجِّ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ فَيَحْسُنُ اسْتِيعَابُهُمْ فِي مُدَّةِ الْأَرْبَعِ، وَمِنْهُمْ فِي طُولِ الْمُدَّةِ يُبْلِغُ الْخَبَرَ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنَ الْأَقْطَارِ.

وَقِيلَ: لِأَنَّ الْأَرْبَعَ هِيَ الْغَايَةُ فِي الْآحَادِ بِحَسَبِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَرَكَّبَ مِنْهُ الْعَشَرَاتُ لِأَنَّ فِيهَا وَاحِدًا وَاثْنَيْنِ وَثَلَاثَةً وَأَرْبَعَةً وَمَجْمُوعُ ذَلِكَ عَشَرَةٌ، وَاخْتَارَ الْمَوْسِمَ لِأَنَّهُ مَجْمَعَ النَّاسِ مِنَ الْآفَاقِ، وَفِيهِ جَوَازُ التَّرَبُّصِ بِوَفَاءِ الدَّيْنِ إِذَا لَمْ تَكُنِ التَّرِكَةُ نَقْدًا وَلَمْ يَخْتَرْ صَاحِبُ الدَّيْنِ إِلَّا النَّقْدَ، وَفِيهِ جَوَازُ الْوَصِيَّةِ لِلْأَحْفَادِ إِذَا كَانَ مَنْ يَحْجُبُهُمْ مِنَ الْآبَاءِ مَوْجُودًا، وَفِيهِ أَنَّ الِاسْتِدَانَةَ لَا تُكْرَهُ لِمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ، وَفِيهِ جَوَازُ شِرَاءِ الْوَارِثِ مِنَ التَّرِكَةِ، وَأَنَّ الْهِبَةَ لَا تُمْلَكُ إِلَّا بِالْقَبْضِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُ الْمَالَ عَنْ مِلْكِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ ابْنَ جَعْفَرٍ عَرَضَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنْ يُحِلِّلَهُمْ مِنْ دَيْنِهِ الَّذِي كَانَ عَلَى الزُّبَيْرِ فَامْتَنَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ. وَفِيهِ بَيَانُ جُودِ ابْنِ جَعْفَرٍ لِسَمَاحَتِهِ بِهَذَا الْمَالِ الْعَظِيمِ، وَأَنَّ مَنْ عَرَضَ عَلَى شَخْصٍ أَنْ يَهَبَهُ شَيْئًا فَامْتَنَعَ أَنَّ الْوَاهِبَ لَا يُعَدُّ رَاجِعًا فِي هِبَتِهِ، وَأَمَّا امْتِنَاعُ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ بَقِيَّةَ الْوَرَثَةِ وَافَقُوهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلِمَ أَنَّ غَيْرَ الْبَالِغِينَ يُنْفِذُونَ لَهُ ذَلِكَ إِذَا بَلَغُوا، وَأَجَابَ ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْأَمْرِ الْمَحْكُومِ بِهِ عِنْدَ التَّشَاحِّ، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِهِ فِي شَرَفِ النُّفُوسِ وَمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ اهـ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ تَحَمَّلَ بِالدَّيْنِ كُلِّهِ عَلَى ذِمَّتِهِ وَالْتَزَمَ وَفَاءَهُ وَرَضِيَ الْبَاقُونَ بِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ قَرِيبًا، لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَرْضَوْا لَمْ يُفِدْهُمْ تَرْكُ بَعْضِ أَصْحَابِ الدَّيْنِ دَيْنَهُ لِنَقْصِ الْمَوْجُودِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ عَنِ الْوَفَاءِ لِظُهُورِ قِلَّتِهِ وَعِظَمِ كَثْرَةِ الدَّيْنِ، وَفِيهِ مُبَالَغَةُ الزُّبَيْرِ فِي الْإِحْسَانِ لِأَصْدِقَائِهِ لِأَنَّهُ رَضِيَ أَنْ يَحْفَظَ لَهُمْ وَدَائِعَهُمْ فِي غَيْبَتِهِمْ، وَيَقُومُ بِوَصَايَاهُمْ عَلَى أَوْلَادِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ حَتَّى احْتَاطَ لِأَمْوَالِهِمْ وَدِيعَةً أَوْ وَصِيَّةً بِأَنْ كَانَ يَتَوَصَّلُ إِلَى تَصْيِيرِهَا فِي ذِمَّتِهِ مَعَ عَدَمِ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهَا غَالِبًا، وَإِنَّمَا يَنْقُلهَا مِنَ الْيَدِ لِلذِّمَّةِ