مَعْنَى قَوْلِهِ: أَفَعَيِينَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، أَيْ: مَا أَعْجَزَنَا الْخَلْقُ الْأَوَّلُ حِينَ أَنْشَأْنَاكُمْ، وَكَأَنَّهُ عَدَلَ عَنِ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ لِمُرَاعَاةِ اللَّفْظِ الْوَارِدِ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ﴾ وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ﴾ يَقُولُ: أَفَأَعْيَا عَلَيْنَا إِنْشَاؤُكُمْ خَلْقًا جَدِيدًا فَتَشُكُّوا فِي الْبَعْثِ؟ وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: عَيِيتُ بِالْأَمْرِ إِذَا لَمْ أَعْرِفْ وَجْهَهُ، وَمِنْهُ الْعِيُّ فِي الْكَلَامِ.
قَوْلُهُ: ﴿لُغُوبٍ﴾ النَّصَبُ) أَيْ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: ﴿وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ أَيْ: مِنْ نَصَبٍ، وَالنَّصَبُ التَّعَبُ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَهَذَا تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: أَكْذَبَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا الْيَهُودَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُ اسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ، فَقَالَ: ﴿وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ أَيْ: مِنْ إِعْيَاءٍ، وَغَفَلَ الدَّاوُدِيُّ الشَّارِحُ فَظَنَّ أَنَّ النَّصَبَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِسُكُونِ الصَّادِ، وَأَنَّهُ أَرَادَ ضَبْطَ اللُّغُوبِ، فَقَالَ مُتَعَقِّبًا عَلَيْهِ: لَمْ أَرَ أَحَدًا نَصَبَ اللَّامَ فِي الْفِعْلِ، قَالَ: وَإِنَّمَا هُوَ بِالنَّصْبِ الْأَحْمَقُ.
قَوْلُهُ: (أَطْوَارًا طَوْرًا كَذَا وَطَوْرًا كَذَا) يُرِيدُ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ وَالْأَطْوَارُ الْأَحْوَالُ الْمُخْتَلِفَةُ وَاحِدُهَا طَوْرٌ بِالْفَتْحِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَعْنَى الْأَطْوَارِ كَوْنَهُ مَرَّةً نُطْفَةً وَمَرَّةً عَلَقَةً إِلَخْ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ نَحْوَهُ وَقَالَ: الْمُرَادُ اخْتِلَافُ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ مِنْ صِحَّةٍ وَسَقَمٍ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَصْنَافًا فِي الْأَلْوَانِ وَاللُّغَاتِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، عَنْ عِمْرَانَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي عَاصِمٍ، عَنْ سُفْيَانَ فِي الْمَغَازِي: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ.
قَوْلُهُ: (جَاءَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ) يَعْنِي: وَفْدَهُمْ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ وَقْتِ قُدُومِهِمْ وَمَنْ عُرِفَ مِنْهُمْ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي.
قَوْلُهُ: (أَبْشِرُوا) بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مِنَ الْبِشَارَةِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالُوا بَشَّرْتَنَا) الْقَائِلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ.
قَوْلُهُ: (فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ) إِمَّا لِلْأَسَفِ عَلَيْهِمْ كَيْفَ آثَرُوا الدُّنْيَا، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يَحْضُرْهُ مَا يُعْطِيهِمْ فَيَتَأَلَّفْهُمْ بِهِ، أَوْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا.
قَوْلُهُ: (فَجَاءَهُ أَهْلُ الْيَمَنِ) هُمُ الْأَشْعَرِيُّونَ قَوْمُ أَبِي مُوسَى، وَقَدْ أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ عِمْرَانَ هَذَا وَفِيهِ مَا يُسْتَأْنَسُ بِهِ لِذَلِكَ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّ الْمُرَادَ بِأَهْلِ الْيَمَنِ هُنَا نَافِعُ بْنُ زَيْدٍ الْحِمْيَرِيُّ مَعَ مَنْ وَفَدَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ حِمْيَرَ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مُسْتَنَدَ ذَلِكَ فِي بَابِ قُدُومِ الْأَشْعَرِيِّينَ وَأَهْلِ الْيَمَنِ وَأَنَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي عَطْفِ أَهْلِ الْيَمَنِ عَلَى الْأَشْعَرِيِّينَ مَعَ أَنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ، لَمَّا كَانَ زَمَانُ قُدُومِ الطَّائِفَتَيْنِ مُخْتَلِفًا وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا قِصَّةٌ غَيْرُ قِصَّةِ الْآخَرِينَ وَقَعَ الْعَطْفُ.
قَوْلُهُ: (اقْبَلُوا الْبُشْرَى) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَالْقَصْرِ أَيِ: اقْبَلُوا مِنِّي مَا يَقْتَضِي أَنْ تُبَشَّرُوا إِذَا أَخَذْتُمْ بِهِ بِالْجَنَّةِ، كَالْفِقْهِ فِي الدِّينِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَحَكَى عِيَاضٌ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ الْيُسْرَى بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَالْمُهْمَلَةِ، قَالَ: وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ.
قَوْلُهُ: (إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا) فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنْ لَمْ يَقْبَلْهَا وَهُوَ بِفَتْحِ أَنْ أَيْ مِنْ أَجْلِ تَرْكِهِمْ لَهَا، وَيُرْوَى بِكَسْرِ إِنْ.
قَوْلُهُ: (فَأَخَذَ النَّبِيُّ ﷺ يُحَدِّثُ بَدْءَ الْخَلْقِ وَالْعَرْشِ)، أَيْ عَنْ بَدْءِ الْخَلْقِ وَعَنْ حَالِ الْعَرْشِ، وَكَأَنَّهُ ضَمَّنَ يُحَدِّثُ مَعْنَى يَذْكُرُ، وَكَأَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا سَأَلُوا عَنْ أَوَّلِ جِنْسِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَقْتَضِي السِّيَاقُ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خُلِقَ مِنْهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَعَلَى الثَّانِي يَقْتَضِي أَنَّ الْعَرْشَ وَالْمَاءَ تَقَدَّمَ خَلْقُهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَوَقَعَ فِي قِصَّةِ نَافِعِ بْنِ زَيْدٍ: نَسْأَلُكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ.
قَوْلُهُ: (قَالُوا جِئْنَا نَسْأَلُكَ) كَذَا الْكُشْمِيهَنِيُّ، وَلِغَيْرِهِ: جِئْنَاكَ لِنَسْأَلَكَ، وَزَادَ فِي التَّوْحِيدِ: وَنَتَفَقَّهُ فِي الدِّينِ، وَكَذَا هِيَ فِي قِصَّةِ نَافِعِ بْنِ زَيْدٍ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا آنِفًا.
قَوْلُهُ: (عَنْ هَذَا الْأَمْرِ) أَيِ الْحَاضِرِ الْمَوْجُودِ، وَالْأَمْرُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَأْمُورُ وَيُرَادُ بِهِ الشَّأْنُ وَالْحُكْمُ