فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: بَدْءُ الْخَلْقِ الْعَرْشُ وَالْمَاءُ وَالْهَوَاءُ، وَخُلِقَتِ الْأَرْضُ مِنَ الْمَاءِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآثَارِ وَاضِحٌ.
قَوْلُهُ: (وَكَتَبَ) أَيْ قَدَّرَ (فِي الذِّكْرِ) أَيْ فِي مَحَلِّ الذِّكْرِ، أَيْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ (كُلَّ شَيْءٍ) أَيْ مِنَ الْكَائِنَاتِ، وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ السُّؤَالِ عَنْ مَبْدَإِ الْأَشْيَاءِ وَالْبَحْثُ عَنْ ذَلِكَ وَجَوَازُ جَوَابِ الْعَالِمِ بِمَا يَسْتَحْضِرُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ الْكَفُّ إِنْ خَشِيَ عَلَى السَّائِلِ مَا يَدْخُلُ عَلَى مُعْتَقِدِهِ. وَفِيهِ أَنَّ جِنْسَ الزَّمَانِ وَنَوْعَهُ حَادِثٌ، وَأَنَّ اللَّهَ أَوْجَدَ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ، لَا عَنْ عَجْزٍ عَنْ ذَلِكَ بَلْ مَعَ الْقُدْرَةِ. وَاسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ مِنْ سُؤَالِ الْأَشْعَرِيِّينَ عَنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ الْكَلَامَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَحُدُوثِ الْعِلْمِ مُسْتَمِرَّانِ فِي ذُرِّيَّتِهِمْ حَتَّى ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ عَسَاكِرَ.
قَوْلُهُ: (فَنَادَى مُنَادٍ) فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا عِمْرَانُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ.
قَوْلُهُ: (ذَهَبَتْ نَاقَتُكَ يَا ابْنَ الْحُصَيْنِ) أَيِ انْفَلَتَتْ، وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى: فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا عِمْرَانُ رَاحِلَتَكَ أَيْ أَدْرِكْ رَاحِلَتَكَ فَهُوَ بِالنَّصْبِ، أَوْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُكَ فَهُوَ بِالرَّفْعِ، وَيُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا الرَّجُلِ. وَقَوْلُهُ تَفَلَّتَتْ بِالْفَاءِ أَيْ شَرَدَتْ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا هِيَ يَقْطَعُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ (دُونَهَا السَّرَابُ) بِالضَّمِّ، أَيْ: يَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ رُؤْيَتِهَا، وَالسَّرَابُ بِالْمُهْمَلَةِ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ مَا يُرَى نَهَارًا فِي الْفَلَاةِ كَأَنَّهُ مَاءٌ.
قَوْلُهُ: (فَوَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ تَرَكْتُهَا) فِي التَّوْحِيدِ: أَنَّهَا ذَهَبَتْ وَلَمْ أَقُمْ يَعْنِي: لِأَنَّهُ قَامَ قَبْلَ أَنْ يُكْمِلَ النَّبِيُّ ﷺ حَدِيثَهُ فِي ظَنِّهِ، فَتَأَسَّفَ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِ الْعِلْمِ. وَقَدْ كُنْتُ كَثِيرَ التَّطَلُّبِ لِتَحْصِيلِ مَا ظَنَّ عِمْرَانُ أَنَّهُ فَاتَهُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ إِلَى أَنْ وَقَفْتُ عَلَى قِصَّةِ نَافِعِ بْنِ زَيْدٍ الْحِمْيَرِيِّ فَقَوِيَ فِي ظَنِّي أَنَّهُ لَمْ يَفُتْهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِخُصُوصِهَا لِخُلُوِّ قِصَّةِ نَافِعِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ قَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى حَدِيثِ عِمْرَانَ، إِلَّا أَنَّ فِي آخِرِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ وَمَا فِيهِنَّ: وَاسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ ﷿.
الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ عُمَرَ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَقَامًا فَأَخْبَرَنَا عَنْ بَدْءِ الْخَلْقِ حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةَ مَنَازِلَهُمْ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (وَرَوَى عِيسَى، عَنْ رَقَبَةَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَسَقَطَ مِنْهُ رَجُلٌ، فَقَالَ ابْنُ الْفَلَكِيِّ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ عِيسَى، وَرَقَبَةَ، أَبُو حَمْزَةَ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو مَسْعُودٍ، وَقَالَ الطَّرْقِيُّ: سَقَطَ أَبُو حَمْزَةَ مِنْ كِتَابِ الْفَرَبْرِيِّ وَثَبَتَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ شَاكِرٍ، فَعِنْدَهُ عَنِ الْبُخَارِيِّ: رَوَى عِيسَى، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ رَقَبَةَ قَالَ وَكَذَا قَالَ ابْنُ رُمَيْحٍ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، قُلْتُ: وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ وَهُوَ يَرْوِي الصَّحِيحَ عَنِ الْجُرْجَانِيِّ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، فَالِاخْتِلَافُ فِيهِ حِينَئِذٍ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ أَسْقَطَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، لَكِنْ جَعَلَ بَيْنَ عِيسَى، وَرَقَبَةَ ضَبَّةَ، وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ أَبَا حَمْزَةَ أَلْحَقَ فِي رِوَايَةِ الْجُرْجَانِيِّ وَقَدْ وَصَفُوهُ بِقِلَّةِ الْإِتْقَانِ، وَعِيسَى الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ مُوسَى الْبُخَارِيُّ وَلَقَبُهُ غُنْجَارٌ بِمُعْجَمَةٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ نُونٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ جِيمٍ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ، وَقَدْ وَصَلَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ مِنْ طَرِيقِ عِيسَى الْمَذْكُورِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ السُّكَّرِيُّ، عَنْ رَقَبَةَ، الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ رَقَبَةَ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْقَافِ وَالْمُوَحَّدَةِ الْخَفِيفَةِ ابْنُ مَصْقَلَةَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَقَدْ تُبْدَلُ سِينًا بَعْدَهَا قَافٌ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ عِيسَى فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي
حَمْزَةَ نَحْوَهُ، لَكِنْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ) هِيَ غَايَةُ قَوْلِهِ أَخْبَرَنَا أَيْ أَخْبَرَنَا عَنْ مُبْتَدَأِ الْخَلْقِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ إِلَى أَنِ انْتَهَى الْإِخْبَارُ عَنْ حَالِ الِاسْتِقْرَارِ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَوَضَعَ الْمَاضِيَ مَوْضِعَ الْمُضَارِعِ مُبَالَغَةً لِلتَّحَقُّقِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ