خَبَرِ الصَّادِقِ، وَكَانَ السِّيَاقُ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ: حَتَّى يَدْخُلَ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَخْبَرَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ بِجَمِيعِ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ مُنْذُ ابْتُدِئَتْ إِلَى أَنْ تَفْنَى إِلَى أَنْ تُبْعَثَ، فَشَمِلَ ذَلِكَ الْإِخْبَارَ عَنِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَفِي تَيْسِيرِ إِيرَادِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَةِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَيَقْرَبُ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِ مُعْجِزَاتِهِ لَا مِرْيَةَ فِي كَثْرَتِهَا أَنَّهُ ﷺ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَمِثْلُ هَذَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ، فَقَالَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ الْيُمْنَى: هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ ثُمَّ أَجْمَلَ عَلَى آخِرِهِمْ فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا، ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي فِي شِمَالِهِ مِثْلَهُ فِي أَهْلِ النَّارِ، وَقَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: فَقَالَ بِيَدَيْهِ فَنَبَذَهُمَا ثُمَّ قَالَ: فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ الْعِبَادِ، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
وَوَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَوَّلَ فِيهِ تَيْسِيرُ الْقَوْلِ الْكَثِيرِ فِي الزَّمَنِ الْقَلِيلِ، وَهَذَا فِيهِ تَيْسِيرُ الْجُرْمِ الْوَاسِعِ فِي الظَّرْفِ الضَّيِّقِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَنَبَذَهُمَا بَعْدَ قَوْلِهِ: وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ أَنَّهُمَا كَانَا مَرْئِيَّيْنِ لَهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِحَدِيثِ الْبَابِ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْقَدَرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى بِنَا الظُّهْرَ. ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ كَذَلِكَ حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ، فَحَدَّثَنَا بِمَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ، فَأَعْلَمُنَا أَحْفَظُنَا لَفْظُ أَحْمَدَ. وَأَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِهِ مُطَوَّلًا، وَتَرْجَمَ لَهُ بَابُ مَا قَامَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ سَاقَهُ بِلَفْظِ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمًا صَلَاةَ الْعَصْرِ ثُمَّ قَامَ يُحَدِّثُنَا فَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا يَكُونُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا أَخْبَرَنَا بِهِ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ، ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ وَقَالَ: حَسَنٌ.
وَفِي الْبَابِ عَنْ حُذَيْفَةَ، وَأَبِي زَيْدِ بْنِ أَخْطَبَ، وَأَبِي مَرْيَمَ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، انْتَهَى. وَلَمْ يَقَعْ لَهُ حَدِيثُ عُمَرَ حَدِيثُ الْبَابِ وَهُوَ عَلَى شَرْطِهِ، وَأَفَادَ حَدِيثُ أَبِي زَيْدٍ بَيَانَ الْمَقَامِ الْمَذْكُورِ زَمَانًا وَمَكَانًا فِي حَدِيثِ عُمَرَ ﵁، وَأَنَّهُ كَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى أَنْ غَابَتِ الشَّمْسُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثَالِثُهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ مِنَ الْإِلَهِيَّاتِ
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي أَحْمَدَ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الزُّبَيْرِيُّ وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ.
قَوْلُهُ: (يَشْتِمُنِي ابْنُ آدَمَ) بِكَسْرِ التَّاءِ مِنْ يَشْتِمُنِي وَالشَّتْمُ هُوَ الْوَصْفُ بِمَا يَقْتَضِي النَّقْصَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ دَعْوَى الْوَلَدِ لِلَّهِ يَسْتَلْزِمُ الْإِمْكَانَ الْمُسْتَدْعِي لِلْحُدُوثِ، وَذَلِكَ غَايَةُ النَّقْصِ فِي حَقِّ الْبَارِي ﷾، وَالْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ هُنَا قَوْلُهُ لَيْسَ يُعِيدُنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَهُوَ قَوْلُ مُنْكِرِي الْبَعْثِ مِنْ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ.
رَابِعُهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا
قَوْلُهُ: (لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ) أَيْ: خَلَقَ الْخَلْقَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ أَوِ الْمُرَادُ أَوْجَدَ جِنْسَهُ، وَقَضَى يُطْلَقُ بِمَعْنَى حَكَمَ وَأَتْقَنَ وَفَرَغَ وَأَمْضَى.
قَوْلُهُ: (كَتَبَ فِي كِتَابِهِ) أَيْ: أَمَرَ الْقَلَمَ أَنْ يَكْتُبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَرِيبًا فَقَالَ لِلْقَلَمِ: اكْتُبْ فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ اللَّفْظُ الَّذِي قَضَاهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾
قَوْلُهُ: (فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ) قِيلَ: مَعْنَاهُ دُونَ الْعَرْشِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ وَالْحَامِلُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ اسْتِبْعَادُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَلَا مَحْذُورَ فِي إِجْرَاءِ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّ الْعَرْشَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ أَيْ ذِكْرُهُ أَوْ عِلْمُهُ فَلَا تَكُونُ الْعِنْدِيَّةُ مَكَانِيَّةٌ بَلْ هِيَ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ كَوْنِهِ مَخْفِيًّا عَنِ الْخَلْقِ مَرْفُوعًا عَنْ حَيِّزِ إِدْرَاكِهِمْ، وَحَكَى الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ بَعْضَهُمْ زَعَمَ أَنَّ لَفْظَ فَوْقَ زَائِدٌ كَقَوْلِهِ: