عِنْدَ الْإِنْسِ بِحَيْثُ لَا يَرَوْنَهُمْ وَلَوْ شَاءُوا لَأَبْدَوْا أَنْفُسَهُمْ، قَالَ: وَإِنَّمَا يَسْتَبْعِدُ ذَلِكَ مَنْ لَمْ يُحِطْ عِلْمًا بِعَجَائِبِ الْمَقْدُورَاتِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يُثْبِتُونَ وُجُودَهُمْ وَيَنْفُونَهُ الْآنَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُهُمْ وَيَنْفِي تَسَلُّطَهُمْ عَلَى الْإِنْسِ. وَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ الْمُعْتَزِلِيُّ: الدَّلِيلُ عَلَى إِثْبَاتِهِمُ السَّمْعُ دُونَ الْعَقْلِ، إِذْ لَا طَرِيقَ إِلَى إِثْبَاتِ أَجْسَامٍ غَائِبَةٍ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا تَعَلُّقٌ، وَلَوْ كَانَ إِثْبَاتُهُمْ بِاضْطِرَارٍ لَمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ، إِلَّا أَنَّا قَدْ عَلِمْنَا بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَتَدَيَّنُ بِإِثْبَاتِهِمْ، وَذَلِكَ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُتَشَاغَلَ بِإِيرَادِهِ.
وَإِذَا ثَبَتَ وُجُودُهُمْ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ صِفَةِ النَّارِ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ﴾ وَاخْتُلِفَ فِي صِفَتِهِمْ: فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ: قَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ: الْجِنُّ أَجْسَادٌ رَقِيقَةٌ بَسِيطَةٌ، قَالَ: وَهَذَا عِنْدَنَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ إِنْ ثَبَتَ بِهِ سَمْعٌ. وَقَالَ أَبُو يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ: الْجِنُّ أَجْسَامٌ مُؤَلَّفَةٌ وَأَشْخَاصٌ مُمَثَّلَةٌ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ رَقِيقَةً وَأَنْ تَكُونَ كَثِيفَةً خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهَا رَقِيقَةٌ، وَأَنَّ امْتِنَاعَ رُؤْيَتِنَا لَهُمْ مِنْ جِهَةِ رِقَّتِهَا. وَهُوَ مَرْدُودٌ، فَإِنَّ الرِّقَّةَ لَيْسَتْ بِمَانِعَةٍ عَنِ الرُّؤْيَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَنْ رُؤْيَتِنَا بَعْضُ الْأَجْسَامِ الْكَثِيفَةِ إِذَا لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ فِينَا إِدْرَاكَهَا. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الرَّبِيعِ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَرَى الْجِنَّ أَبْطَلْنَا شَهَادَتَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا. انْتَهَى. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يَدَّعِي رُؤْيَتَهُمْ عَلَى صُوَرِهِمُ الَّتِي خُلِقُوا عَلَيْهَا، وَأَمَّا مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ يَرَى شَيْئًا مِنْهُمْ بَعْدَ أَنْ يَتَطَوَّرَ عَلَى صُوَرٍ شَتَّى مِنَ الْحَيَوَانِ فَلَا يَقْدَحُ فِيهِ، وَقَدْ تَوَارَدَتِ الْأَخبَارُ بِتَطَوُّرِهِمْ فِي الصُّوَرِ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ: هُوَ تَخْيِيلٌ فَقَطْ، وَلَا يَنْتَقِلُ أَحَدٌ عَنْ صُورَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ، وَقِيلَ: بَلْ يَنْتَقِلُونَ، لَكِنْ لَا بِاقْتِدَارِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ بِضَرْبٍ مِنَ الْفِعْلِ إِذَا فَعَلَهُ انْتَقَلَ كَالسِّحْرِ، وَهَذَا قَدْ يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ، وَفِيهِ أَثَرٌ عَنْ عُمَرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّ الْغِيلَانَى ذُكِرُوا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ: إِنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْ صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ لَهُمْ سَحَرَةٌ كَسَحَرَتِكُمْ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَذِّنُوا وَإِذَا ثَبَتَ وُجُودُهُمْ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَصْلِهِمْ فَقِيلَ: إِنَّ أَصْلَهُمْ مِنْ وَلَدِ إِبْلِيسَ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا سُمِّيَ شَيْطَانًا، وَقِيلَ: إِنَّ الشَّيَاطِينَ خَاصَّةً أَوْلَادُ إِبْلِيسَ، وَمَنْ عَدَاهُمْ لَيْسُوا مِنْ وَلَدِهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْآتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْجِنِّ يُقَوِّي أَنَّهُمْ نَوْعٌ وَاحِدٌ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَاخْتَلَفَ صِنْفُهُ فَمَنْ كَانَ كَافِرًا سُمِّيَ شَيْطَانًا وَإِلَّا قِيلَ لَهُ جِنِّيٌّ، وَأَمَّا كَوْنُهُمْ مُكَلَّفِينَ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْجِنُّ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ مُكَلَّفُونَ، وَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ: لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ، إِلَّا مَا حَكَى زَرْقَانُ عَنْ بَعْضِ الْحَشْوِيَّةِ أَنَّهُمْ مُضْطَرُّونَ إِلَى أَفْعَالِهِمْ وَلَيْسُوا بِمُكَلَّفِينَ، قَالَ: وَالدَّلِيلُ لِلْجَمَاعَةِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَمِّ الشَّيَاطِينِ وَالتَّحَرُّزِ مِنْ شَرِّهِمْ وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَهَذِهِ الْخِصَالُ لَا تَكُونُ إِلَّا لِمَنْ خَالَفَ الْأَمْرَ وَارْتَكَبَ النَّهْيَ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ أَنْ لَا يَفْعَلَ، وَالْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَإِذَا تَقَرَّرَ كَوْنُهُمْ مُكَلَّفِينَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا: هَلْ كَانَ فِيهِمْ نَبِيٌّ مِنْهُمْ أَمْ لَا؟ فَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ إِثْبَاتَ ذَلِكَ، قَالَ: وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ الضَّحَّاكِ احْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ رُسُلًا أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ، فَلَوْ جَازَ أَنَّ الْمُرَادَ بِرُسُلِ الْجِنِّ رُسُلُ الْإِنْسِ لَجَازَ عَكْسُهُ، وَهُوَ فَاسِدٌ. انْتَهَى. وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ رُسُلَ الْإِنْسِ رُسُلٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، وَرُسُلُ الْجِنِّ بَثَّهُمُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ، فَسَمِعُوا كَلَامَ الرُّسُلِ مِنَ الْإِنْسِ وَبَلَّغُوا قَوْمَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ قَائِلُهُمْ ﴿إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ الْآيَةَ، وَاحْتَجَّ ابْنُ حَزْمٍ بِأَنَّهُ ﷺ قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ قَالَ: وَلَيْسَ الْجِنُّ مِنْ قَوْمِ الْإِنْسِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ أَنْبِيَاءُ إِلَيْهِمْ، قَالَ: وَلَمْ يُبْعَثْ إِلَى الْجِنِّ مِنَ الْإِنْسِ نَبِيٌّ إِلَّا نَبِيُّنَا ﷺ؛ لِعُمُومِ بَعْثَتِهِ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ بِاتِّفَاقٍ. انْتَهَى، وَقَالَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute