ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّهُ ﷺ بُعِثَ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَهَذَا مِمَّا فُضِّلَ بِهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ غَافِرٍ: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ قَالَ: هُوَ رَسُولُ الْجِنِّ، وَهَذَا ذَكَرَهُ (١).
وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْإِرْشَادِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ مَعَ الْعِيسَوِيَّةِ: وَقَدْ عَلِمْنَا ضَرُورَةً أَنَّهُ ﷺ ادَّعَى كَوْنَهُ مَبْعُوثًا إِلَى الثَّقَلَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، قُلْتُ: وَثَبَتَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ: وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ، وَبُعِثْتُ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بِلَفْظٍ: وَعَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ كَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى الْإِنْسِ فَقَطْ، وَبُعِثَ مُحَمَّدٌ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. وَإِذَا تَقَرَّرَ كَوْنُهُمْ مُكَلَّفِينَ فَهُمْ مُكَلَّفُونَ بِالتَّوْحِيدِ وَأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا مَا عَدَاهُ مِنَ الْفُرُوعِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ لِمَا ثَبَتَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الرَّوْثِ وَالْعَظْمِ وَأَنَّهُمَا زَادُ الْجِنِّ، وَسَيَأْتِي فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي آخِرِهِ: فَقُلْتُ: مَا بَالُ الرَّوْثِ وَالْعَظْمِ؟ قَالَ: هُمَا طَعَامُ الْجِنِّ. . الْحَدِيثَ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ تَنَاوُلِهِمْ لِلرَّوْثِ وَذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى الْإِنْسِ.
وَكَذَلِكَ رَوَى أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ خَيْبَرَ فَتَبِعَهُ رَجُلَانِ، وَآخَرُ يَتْلُوهُمَا يَقُولُ: ارْجِعَا. حَتَّى رَدَّهُمَا، ثُمَّ لَحِقَهُ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَذَيْنِ شَيْطَانَانِ، فَإِذَا أَتَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَاقْرَأْ ﵇، وَأَخْبِرْهُ أَنَّا فِي جَمْعِ صَدَقَاتِنَا، وَلَوْ كَانَتْ تَصْلُحُ لَهُ لَبَعَثْنَا بِهَا إِلَيْهِ. فَلَمَّا قَدِمَ الرَّجُلُ الْمَدِينَةَ أَخْبَرَ النَّبِيَّ ﷺ بِذَلِكَ، فَنَهَى عَنِ الْخَلْوَةِ، أَيِ السَّفَرِ مُنْفَرِدًا.
وَاخْتُلِفَ أَيْضًا: هَلْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَنَاكَحُونَ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ بِالنَّفْيِ، وَقِيلَ بِمُقَابِلِهِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: أَكْلُهُمْ وَشُرْبُهُمْ تَشَمُّمٌ وَاسْتِرْوَاحٌ لَا مَضْغٌ وَلَا بَلْعٌ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أُمَيَّةَ بْنِ مَخْشِيٍّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ جَالِسًا وَرَجُلٌ يَأْكُلُ وَلَمْ يُسَمِّ، ثُمَّ سَمَّى فِي آخِرِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَا زَالَ الشَّيْطَانُ يَأْكُلُ مَعَهُ فَلَمَّا سَمَّى اسْتَقَاءَ مَا فِي بَطْنِهِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا يَأْكُلَنَّ أَحَدُكُمْ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبْ بِشِمَالِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ. وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّ الْجِنَّ أَصْنَافٌ: فَخَالِصُهُمْ رِيحٌ لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ وَلَا يَتَوَالَدُونَ، وَجِنْسٌ مِنْهُمْ يَقَعُ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَمِنْهُمُ السَّعَالِي وَالْغُولُ وَالْقُطْرُبُ.
وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ كَانَ جَامِعًا لِلْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الْجِنُّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يَطِيرُونَ فِي الْهَوَاءِ، وَصِنْفٌ حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ، وَصِنْفٌ يَحِلُّونَ وَيَظْعَنُونَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ لَكِنْ قَالَ فِي الثَّالِثِ: وَصِنْفٌ عَلَيْهِمُ الْحِسَابُ وَالْعِقَابُ، وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ أَحَدِ ثِقَاتِ الشَّامِيِّينَ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ قَالَ: مَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ إِلَّا وَفِي سَقْفِ بَيْتِهِمْ مِنَ الْجِنِّ، وَإِذَا وُضِعَ الْغَدَاءُ نَزَلُوا فَتَغَدَّوْا مَعَهُمْ وَالْعَشَاءُ كَذَلِكَ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُمْ يَتَنَاكَحُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ﴾ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي﴾ وَالدَّلَالَةُ مِنْ ذَلِكَ ظَاهِرَةٌ.
وَاعْتَلَّ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ الْجَانَّ خُلِقَ مِنْ نَارٍ، وَفِي النَّارِ مِنَ الْيُبُوسَةِ وَالْخِفَّةِ مَا يَمْنَعُ مَعَهُ التَّوَالُدَ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ أَصْلَهُمْ مِنَ النَّارِ كَمَا أَنَّ أَصْلَ الْآدَمِيِّ مِنَ التُّرَابِ، وَكَمَا أَنَّ الْآدَمِيَّ لَيْسَ طِينًا حَقِيقَةً، كَذَلِكَ الْجِنِّيُّ لَيْسَ نَارًا حَقِيقَةً، وَقَدْ وَقَعَ فِي الصَّحِيحِ فِي قِصَّةِ تَعَرُّضِ الشَّيْطَانِ لِلنَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: فَأَخَذْتُهُ فَخَنَقْتُهُ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ رِيقِهِ عَلَى يَدَيَّ. قُلْتُ: وَبِهَذَا الْجَوَابِ يَنْدَفِعُ إِيرَادُ مَنِ اسْتَشْكَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾ فَقَالَ كَيْفَ تُحْرِقُ النَّارُ النَّارَ؟
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَثَوَابُهُمْ
(١) في هامش طبعة بولاق: هذه الكلمة ثابتة في بعض النسخ وساقطة من بعضها وبعدها علامة وقفة.