وَأَمَّا رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو فَوَصَلَهَا أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَفْظُهُ: اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِينَ سَنَةً وَاخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ، فَاتَّفَقَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ابْنَ ثَمَانِينَ سَنَةً عِنْدَ اخْتِتَانِهِ. وَوَقَعَ فِي الْمُوَطَّأ مَوْقُوفًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَعِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ مَرْفُوعًا: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ اخْتَتَنَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَقَطَ مِنَ الْمَتْنِ شَيْءٌ، فَإِنَّ هَذَا الْقَدْرَ هُوَ مِقْدَارُ عُمُرِهِ، وَوَقَعَ فِي آخِرِ كِتَابِ الْعَقِيقَةِ لِأَبِي الشَّيْخِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مَوْصُولًا مَرْفُوعًا مِثْلُهُ وَزَادَ: وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِينَ سَنَةً، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَاشَ مِائَتَيْ سَنَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْأَوَّلَ حُسِبَ مِنْ مَبْدَأ نُبُوَّتِهِ وَالثَّانِي مِنْ مَبْدَأ مَوْلِدِهِ.
الْحَدِيثُ الثَّامِنُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَبَعْدَ التَّحْتَانِيَّةِ السَّاكِنَةِ مُهْمَلَةٌ الرُّعَيْنِيُّ بِمُهْمَلَتَيْنِ وَنُونٍ مُصَغَّرٌ مِصْرِيٌّ مَشْهُورٌ، وَأَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيٌّ، وَمُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سِيرِينَ. وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ أَيُّوبَ، وَسَاقَهُ عَلَى لَفْظِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، وَلَمْ يَقَعِ التَّصْرِيحُ بِرَفْعِهِ فِي رِوَايَتِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ فِي النِّكَاحِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ فَصَرَّحَ بِرَفْعِهِ لَكِنْ لَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، وَلَمْ يَقَعْ رَفْعُهُ هُنَا فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ وَلَا كَرِيمَةَ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ غَيْرَ مَرْفُوعٍ، وَالْحَدِيثُ فِي الْأَصْلِ مَرْفُوعٌ كَمَا فِي رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ وَكَمَا فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَالْبَزَّارِ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَكَذَا تَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، وَلَكِنَّ ابْنَ سِيرِينَ كَانَ غَالِبًا لَا يُصَرِّحُ بِرَفْعِ كَثِيرٍ مِنْ حَدِيثِهِ.
قَوْلُهُ: (لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ ﵊ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ) قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: الْجَيِّدُ أَنْ يُقَالَ بِفَتْحِ الذَّالِ فِي الْجَمْعِ لِأَنَّهُ جَمْعُ كَذْبَةٍ بِسُكُونِ الذَّالِ، وَهُوَ اسْمٌ لَا صِفَةٌ لِأَنَّكَ تَقُولُ كَذَبَ كَذْبَةً كَمَا تَقُولُ رَكَعَ رَكْعَةً وَلَوْ كَانَ صِفَةً لَكَنَ فِي الْجَمْعِ، وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى هَذَا الْحَصْرِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الطَّوِيلِ فَقَالَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ: وَذَكَرَ كَذَبَاتِهِ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَزَادَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الْكَوْكَبِ: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ وَقَوْلُهُ لِآلِهَتِهِمْ: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ انْتَهَى.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ذِكْرُ الْكَوْكَبِ يَقْتَضِي أَنَّهَا أَرْبَعٌ، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ فَيَحْتَاجُ فِي ذِكْرِ الْكَوْكَبِ إِلَى تَأْوِيلٍ، قُلْتُ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الْكَوْكَبِ بَدَلَ قَوْلِهِ فِي سَارَةَ، وَالَّذِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الطُّرُقُ ذِكْرُ سَارَةَ دُونَ الْكَوْكَبِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يُعَدَّ مَعَ أَنَّهُ أَدْخَلُ مِنْ ذِكْرِ سَارَةَ لِمَا نُقِلَ أَنَّهُ قَالَهُ فِي حَالِ الطُّفُولِيَّةِ فَلَمْ يَعُدَّهَا لِأَنَّ حَالَ الطُّفُولِيَّةِ لَيْسَتْ بِحَالِ تَكْلِيفٍ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ الْبُلُوغِ لَكِنَّهُ قَالَهُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ التَّوْبِيخُ، وَقِيلَ قَالَهُ عَلَى طَرِيقِ الِاحْتِجَاجِ عَلَى قَوْمِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الَّذِي يَتَغَيَّرُ لَا يَصْلُحُ لِلرُّبُوبِيَّةِ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ أنَّهُ قَالَ تَوْبِيخًا لِقَوْمِهِ أَوْ تَهَكُّمًا بِهِمْ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَلِهَذَا لَمْ يُعَدَّ ذَلِكَ فِي الْكَذَبَاتِ، وَأَمَّا إِطْلَاقُهُ الْكَذِبَ عَلَى الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ فَلِكَوْنِهِ قَالَ قَوْلًا يَعْتَقِدُهُ السَّامِعُ كَذِبًا لَكِنَّهُ إِذَا حُقِّقَ لَمْ يَكُنْ كَذِبًا لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَعَارِيضِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْأَمْرَيْنِ فَلَيْسَ بِكَذِبٍ مَحْضٍ، فَقَوْلُهُ: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ إِنِّي سَقِيمٌ أَيْ سَأُسْقَمُ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ كَثِيرًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنِّي سَقِيمٌ بِمَا قُدِّرَ عَلَيَّ مِنَ الْمَوْتِ أَوْ سَقِيمُ الْحُجَّةِ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَكُمْ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ تَأْخُذُهُ الْحُمَّى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كَذِبًا لَا تَصْرِيحًا وَلَا تَعْرِيضًا، وَقَوْلُهُ:
﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ﴾ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا قَالَهُ تَمْهِيدًا لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ الْأَصْنَامَ لَيْسَتْ بِآلِهَةٍ وَقَطْعًا لِقَوْمِهِ فِي قَوْلِهِمْ أنَّهَا تَضُرُّ وَتَنْفَعُ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ يُتَجَوَّزُ فِيهِ فِي الشَّرْطِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute