وَصَكَّهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَرَائِنِ السِّيَاقِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: إِنَّمَا فَقَأَ مُوسَى الْعَيْنَ الَّتِي هِيَ تَخْيِيلٌ وَتَمْثِيلٌ وَلَيْسَتْ عَيْنًا حَقِيقَةً، وَمَعْنَى رَدَّ اللَّهُ عَيْنَهُ أَيْ أَعَادَهُ إِلَى خِلْقَتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَقِيلَ: عَلَى ظَاهِرِهِ، وَرَدَّ اللَّهُ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ عَيْنَهُ الْبَشَرِيَّةَ لِيَرْجِعَ إِلَى مُوسَى عَلَى كَمَالِ الصُّورَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَقْوَى فِي اعْتِبَارِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَجَوَّزَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنْ يَكُونَ مُوسَى أُذِنَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِمَلَكِ الْمَوْتِ وَأُمِرَ مَلَكُ الْمَوْتِ بِالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا أُمِرَ مُوسَى بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَصْنَعُ الْخَضِرُ. وَفِيهِ أَنَّ الْمَلَكَ يَتَمَثَّلُ بِصُورَةِ الْإِنْسَانِ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ. وَفِيهِ فَضْلُ الدَّفْنِ فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فِي الْجَنَائِزِ.
وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: فَلَكَ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا كَثِيرٌ جِدًّا لِأَنَّ عَدَدَ الشَّعْرِ الَّذِي تُوَارِيهِ الْيَدُ قَدْرَ الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ مُوسَى وَبَعْثَةِ نَبِيِّنَا ﷺ مَرَّتَيْنِ وَأَكْثَرَ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ فِي الْعُمُرِ وَقَدْ قَالَ بِهِ قَوْمٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ﴾ أَنَّهُ زِيَادَةٌ وَنَقْصٌ فِي الْحَقِيقَةِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ عُمُرِهِ لِلْجِنْسِ لَا لِلْعَيْنِ، أَيْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِ آخَرَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ عِنْدِي ثَوْبٌ وَنِصْفُهُ أَيْ وَنِصْفُ ثَوْبٍ آخَرَ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ أَيْ وَمَا يَذْهَبُ مِنْ عُمُرِهِ، فَالْجَمِيعُ مَعْلُومٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْجَوَابُ عَنْ قِصَّةِ مُوسَى أَنَّ أَجَلَهُ قَدْ كَانَ قَرُبَ حُضُورُهُ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا مِقْدَارُ مَا دَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ مِنَ الْمُرَاجَعَتَيْنِ، فَأُمِرَ بِقَبْضِ رُوحِهِ أَوَّلًا مَعَ سَبْقِ عِلْمِ اللَّهِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ إِلَّا بَعْدَ الْمُرَاجَعَةِ وَإِنْ لَمْ يَطَّلِعْ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الحَدَيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ) كَذَا قَالَ شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَتَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَتِيقٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَالْأَعْرَجِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الرِّقَاقِ وَالْحَدِيثُ مَحْفُوظٌ لِلزُّهْرِيِّ عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَقَدْ جَمَعَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي التَّوْحِيدِ إِشَارَةً إِلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ عَنْهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَلَهُ أَصْلٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْرَجِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْهُ وَسَيَأْتِي بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الرِّقَاقِ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْهُ، وَرَوَاهُ - مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ - أَبُو سَعِيدٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْإِشْخَاصِ بِتَمَامِهِ.
قَوْلُهُ: (اسْتَبَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ سَبَبُ ذَلِكَ، وَأَوَّلُ حَدِيثِهِ بَيْنَمَا يَهُودِيٌّ يَعْرِضُ سِلْعَةً أُعْطِيَ بِهَا شَيْئًا كَرِهَهُ فَقَالَ: لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ هَذَا الْيَهُودِيِّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَزَعَمَ ابْنُ بَشْكُوَالَ أَنَّهُ فِنْحَاصُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ وَمُهْمَلَتَيْنِ وَعَزَاهُ لِابْنِ إِسْحَاقَ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، لِفِنْحَاصَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِي لَطْمِهِ إِيَّاهُ قِصَّةٌ أُخْرَى فِي نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ الْآيَةَ. وَأَمَّا كَوْنُ اللَّاطِمِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ هُوَ الصِّدِّيقَ فَهُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِيمَا أَخْرَجَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي جَامِعِهِ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْبَعْثِ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَابْنِ جُدْعَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ كَلَامٌ فِي شَيْءٍ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: هُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ فَلَطَمَهُ الْمُسْلِمُ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (فَرَفَعَ الْمُسْلِمُ يَدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَطَمَ الْيَهُودِيَّ) أَيْ عِنْدَ سَمَاعِهِ قَوْلَ الْيَهُودِيِّ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ وَإِنَّمَا صَنَعَ ذَلِكَ لِمَا فَهِمَهُ مِنْ عُمُومِ لَفْظِ الْعَالَمِينَ فَدَخَلَ فِيهِ مُحَمَّدٌ ﷺ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ الْمُسْلِمِ أَنَّ مُحَمَّدًا أَفْضَلُ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُبَيَّنًا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ الضَّارِبَ قَالَ لِلْيَهُودِيِّ حِينَ قَالَ ذَلِكَ: أَيْ خَبِيثُ عَلَى مُحَمَّدٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَطَمَ الْيَهُودِيَّ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى كَذِبِهِ عِنْدَهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute