للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

مِنَ الْمُبَاحِ وَالْمَلَاذِّ يَصِيرُ مُسْتَحَبًّا بِالنِّيَّةِ وَالْقَصْدِ. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الِاسْتِثْنَاءِ لِمَنْ قَالَ سَأَفْعَلُ كَذَا، وَأَنَّ إِتْبَاعَ الْمَشِيئَةِ الْيَمِينَ يَرْفَعُ حُكْمَهَا، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بِشَرْطِ الِاتِّصَالِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ مَعَ بَسْطٍ فِيهِ.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ إِذَا عَقَبَ الْيَمِينَ، وَلَوْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ يَسِيرٌ لَا يَضُرُّ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى أَنَّ سُلَيْمَانَ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَقِبَ قَوْلِ الْمَلَكِ لَهُ قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَأَفَادَ مَعَ التَّخَلُّلِ بَيْنَ كَلَامَيْهِ بِمِقْدَارِ كَلَامِ الْمَلَكِ، وَأَجَابَ الْقُرْطُبِيُّ بِاحْتِمَالِ أَنْ يكُونَ الْمَلَكُ قَالَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ احْتِمَالٌ مُمْكِنٌ يَسْقُطُ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ الْمَذْكُورُ. وَفِيهِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاللَّفْظِ وَلَا يَكْفِي فِيهِ النِّيَّةُ. وَهُوَ اتِّفَاقٌ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ. وَفِيهِ مَا خُصَّ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنَ الْقُوَّةِ عَلَى الْجِمَاعِ الدَّالِّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ الْبِنْيَةِ وَقُوَّةِ الْفُحُولِيَّةِ وَكَمَالِ الرُّجُولِيَّةِ مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالْعِبَادَةِ وَالْعُلُومِ. وَقَدْ وَقَعَ لِلنَّبِيِّ مِنْ ذَلِكَ أَبْلَغُ الْمُعْجِزَةِ لِأَنَّهُ مَعَ اشْتِغَالِهِ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ وَعُلُومِهِ وَمُعَالَجَةِ الْخَلْقِ كَانَ مُتَقَلِّلًا مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ الْمُقْتَضِيَةِ لِضَعْفِ الْبَدَنِ عَلَى كَثْرَةِ الْجِمَاعِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي لَيْلَةٍ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ وَهُنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْغُسْلِ، وَيُقَالُ إِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَتْقَى لِلَّهِ فَشَهْوَتُهُ أَشَدُّ لِأَنَّ الَّذِي لَا يَتَّقِي يَتَفَرَّجُ بِالنَّظَرِ وَنَحْوِهِ. وَفِيهِ جَوَازُ الْإِخْبَارِ عَنِ الشَّيْءِ وَوُقُوعِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِنَاءً عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ فَإِنَّ سُلَيْمَانَ جَزَمَ بِمَا قَالَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَنْ وَحْيٍ وَإِلَّا لَوَقَعَ، كَذَا قِيلَ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا يُظَنُّ بِسُلَيْمَانَ أَنَّهُ قَطَعَ بِذَلِكَ عَلَى رَبِّهِ إِلَّا مَنْ جَهِلَ حَالَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَدَبَهُمْ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فَإِنْ قِيلَ مِنْ أَيْنَ لِسُلَيْمَانَ أَنْ يُخْلَقَ مِنْ مَائِهِ هَذَا الْعَدَدُ فِي لَيْلَةٍ؟! لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بِوَحْيٍ لِأَنَّهُ مَا وَقَعَ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ لِلَّهِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ التَّمَنِّي عَلَى اللَّهِ وَالسُّؤَالِ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ وَالْقَسَمِ عَلَيْهِ كَقَوْلِ أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ وَاللَّهِ لَا يُكْسَرُ سِنُّهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَمَّا أَجَابَ اللَّهُ دَعَوْتَهُ أَنْ يَهَبَ لَهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ كَانَ هَذَا عِنْدَهُ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ فَجَزَمَ بِهِ. وَأَقْرَبُ الِاحْتِمَالَاتِ مَا ذَكَرْتُهُ أَوَّلًا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ مُقَيَّدًا بِشَرْطِ الِاسْتِثْنَاءِ فَنَسِيَ الِاسْتِثْنَاءَ فَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ لِفِقْدَانِ الشَّرْطِ، وَمِنْ ثَمَّ سَاغَ لَهُ أَوَّلًا أَنْ يَحْلِفَ. وَأَبْعَدَ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْحَلِفِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ. وَفِيهِ جَوَازُ السَّهْوِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي عُلُوِّ مَنْصِبِهِمْ، وَفِيهِ جَوَازُ الْإِخْبَارِ عَنِ الشَّيْءِ أَنَّهُ سَيَقَعُ وَمُسْتَنَدُ الْمُخْبِرِ الظَّنُّ مَعَ وُجُودِ الْقَرِينَةِ الْقَوِيَّةِ لِذَلِكَ. وَفِيهِ جَوَازُ إِضْمَارِ الْمُقْسَمِ بِهِ فِي الْيَمِينِ لِقَوْلِهِ: لَأَطَّوَّفَنَّ مَعَ قَوْلِهِ : لَمْ يَحْنَثْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اسْمَ اللَّهِ فِيهِ مُقَدَّرٌ، فَإِنْ قَالَ أَحَدٌ بِجَوَازِ ذَلِكَ فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا إِذَا وَرَدَ تَقْرِيرُهُ عَلَى لِسَانِ الشَّارِعِ، وَإِنْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ فَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلِهِ كَأَنْ يُقَالَ لَعَلَّ التَّلَفُّظَ بِاسْمِ اللَّهِ وَقَعَ فِي الْأَصْلِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فِي الْحِكَايَةِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: وَاللَّهِ لَأَطَّوَّفَنَّ يَصْدُقُ أَنَّهُ قَالَ لَأَطَّوَّفَنَّ فَإِنَّ اللَّافِظَ بِالْمُرَكَّبِ لَافِظٌ بِالْمُفْرَدِ، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ: لَا يُشْتَرَطُ التَّصْرِيحُ بِمُقْسَمٍ بِهِ مُعَيَّنٍ، فَمَنْ قَالَ أَحْلِفُ أَوْ أَشْهَدُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهُوَ يَمِينٌ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِالنِّيَّةِ، وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ لَيْسَتْ بِيَمِينٍ مُطْلَقًا. وَفِيهِ جَوَازُ اسْتِعْمَالِ لَوْ وَلَوْلَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ عَقَدَهُ لَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَاخِرِ الْكِتَابِ.

وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ الْكِنَايَةِ فِي اللَّفْظِ الَّذِي يُسْتَقْبَحُ ذِكْرُهُ لِقَوْلِهِ لَأَطَّوَّفَنَّ بَدَلَ قَوْلِهِ لَأُجَامِعَنَّ.

الْحَدِيثُ الثالث.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ) هُوَ يَزِيدُ بْنُ شَرِيكٍ.

قَوْلُهُ: (أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلُ) تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْلُهُ: أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ أَيْ وَقْتَ الصَّلَاةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَيَتَضَمَّنُ