وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ: الصَّوَابُ أَنَّ عِيسَى لَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامَ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَتَكُونُ الدَّعْوَى وَاحِدَةٌ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمَعْنَى وَضْعِ عِيسَى الْجِزْيَةَ مَعَ أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ مَشْرُوعِيَّتَهَا مُقَيَّدَةٌ بِنُزُولِ عِيسَى لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْخَبَرُ، وَلَيْسَ عِيسَى بِنَاسِخٍ لِحُكْمِ الْجِزْيَةِ بَلْ نَبِيُّنَا ﷺ هُوَ الْمُبَيِّنُ لِلنَّسْخِ بِقَوْلِهِ هَذَا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَإِنَّمَا قَبِلْنَاهَا قَبْلَ نُزُولِ عِيسَى لِلْحَاجَةِ إِلَى الْمَالِ بِخِلَافِ زَمَنِ عِيسَى فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْمَالِ فَإِنَّ الْمَالَ فِي زَمَنِهِ يَكْثُرُ حَتَّى لَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ مَشْرُوعِيَّةَ قَبُولِهَا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ شُبْهَةِ الْكِتَابِ وَتَعَلُّقِهِمْ بِشَرْعٍ قَدِيمٍ بِزَعْمِهِمْ، فَإِذَا نَزَلَ عِيسَى ﵇ زَالَتِ الشُّبْهَةُ بِحُصُولِ مُعَايَنَتِهِ فَيَصِيرُونَ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فِي انْقِطَاعِ حُجَّتِهِمْ وَانْكِشَافِ أَمْرِهِمْ، فَنَاسَبَ أَنْ يُعَامَلُوا مُعَامَلَتَهُمْ فِي عَدَمِ قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ.
هَكَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا احْتِمَالًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَيَفِيضُ الْمَالُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَبِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ يَكْثُرُ، وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ الْمَذْكُورةِ وَلَيَدْعُوَنَّ إِلَى الْمَالِ فَلَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ. وَسَبَبُ كَثْرَتِهِ نُزُولُ الْبَرَكَاتِ وَتَوَالِي الْخَيْرَاتِ بِسَبَبِ الْعَدْلِ وَعَدَمِ الظُّلْمِ، وَحِينَئِذٍ تُخْرِجُ الْأَرْضُ كُنُوزَهَا وَتَقِلُّ الرَّغَبَاتُ فِي اقْتِنَاءِ الْمَالِ لِعِلْمِهِمْ بِقُرْبِ السَّاعَةِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) أَيْ أنَّهُمْ حِينَئِذٍ لَا يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ إِلَّا بِالْعِبَادَةِ، لَا بِالتَّصَدُّقِ بِالْمَالِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ النَّاسَ يَرْغَبُونَ عَنِ الدُّنْيَا حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ وَاحِدَةٌ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ الْآيَةَ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إِنَّمَا تَلَا أَبُو هُرَيْرَةَ هَذِهِ الْآيَةَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى مُنَاسَبَتِهَا لِقَوْلِهِ: حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا فَإِنَّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى صَلَاحِ النَّاسِ وَشِدَّةِ إِيمَانِهِمْ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى الْخَيْرِ، فَهُمْ لِذَلِكَ يُؤْثِرُونَ الرَّكْعَةَ الْوَاحِدَةَ عَلَى جَمِيعِ الدُّنْيَا. وَالسَّجْدَةُ تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا الرَّكْعَةُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الصَّلَاةَ حِينَئِذٍ تَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ الصَّدَقَةِ لِكَثْرَةِ الْمَالِ إِذْ ذَاكَ وَعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ. وقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ: (وَإِنْ) بِمَعْنَى مَا، أَيْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى إِذَا نَزَلَ عِيسَى إِلَّا آمَنَ بِهِ، وَهَذَا مُصَيَّرٌ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ يَعُودُ عَلَى عِيسَى، أَيْ إِلَّا لَيُؤْمِنَ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، وَبِهَذَا جَزَمَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي رَجَاءٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى: وَاللَّهِ إِنَّهُ الْآنَ لَحَيٌّ، وَلَكِنْ إِذَا نَزَلَ آمِنُوا بِهِ أَجْمَعُونَ، وَنَقَلَهُ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَنَقَلَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا أُخَرَ وَأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: بِهِ يَعُودُ لِلَّهِ أَوْ لِمُحَمَّدٍ، وَفِي مَوْتِهِ يَعُودُ عَلَى الْكِتَابِيِّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَقِيلَ عَلَى عِيسَى.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَمُوتُ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ حَتَّى يُؤْمِنَ بِعِيسَى، فَقَالَ لَهُ عِكْرِمَةُ: أَرَأَيْتَ إِنْ خَرَّ مِنْ بَيْتٍ أَوِ احْتَرَقَ أَوْ أَكَلَهُ السَّبُعُ؟ قَالَ: لَا يَمُوتُ حَتَّى يُحَرِّكَ شَفَتَيْهِ بِالْإِيمَانِ بِعِيسَى وَفِي إِسْنَادِهِ خُصَيْفٌ وَفِيهِ ضَعْفٌ. وَرَجَّحَ جَمَاعَةٌ هَذَا الْمَذْهَبَ بِقِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِمْ أَيْ أَهْلِ الْكِتَابِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحَدٌ يَحْضُرُهُ الْمَوْتُ إِلَّا آمَنَ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ قَبْلَ خُرُوجِ رُوحِهِ بِعِيسَى وَأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ أَمَتِهِ، وَلَكِنْ لَا يَنْفَعُهُ هَذَا الْإِيمَانُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ﴾ قَالَ: وَهَذَا الْمَذْهَبُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute