وَالِاشْتِغَالُ بِغَيْرِهَا، وَفِيهِ فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ لِأَنَّ الَّذِي أَفْتَاهُ أَوَّلًا بِأَنْ لَا تَوْبَةَ لَهُ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْعِبَادَةُ فَاسْتَعْظَمَ وُقُوعَ مَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ الْقَاتِلِ مِنَ اسْتِجْرَائِهِ عَلَى قَتْلِ هَذَا الْعَدَدِ الْكَثِيرِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَغَلَبَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ فَأَفْتَاهُ بِالصَّوَابِ وَدَلَّهُ عَلَى طَرِيقِ النَّجَاةِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَفِيهِ أَنَّ التَّوْبَةَ تَنْفَعُ مِنَ الْقَتْلِ كَمَا تَنْفَعُ مِنْ سَائِرِ الذُّنُوبِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا وَفِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ خِلَافٌ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مِنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ إِذَا لَمْ يَرِدْ فِي شَرْعِنَا تَقْرِيرُهُ وَمُوَافَقَتُهُ، أَمَّا إِذَا وَرَدَ فَهُوَ شَرْعٌ لَنَا بِلَا خِلَافٍ، وَمِنَ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾
وَحَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَفِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ فَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ تَخْفِيفِ الْآصَارِ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، فَإِذَا شُرِعَ لَهُمْ قَبُولُ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ فَمَشْرُوعِيَّتُهَا لَنَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾ الْآيَةَ فِي التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ فِي بَنِي آدَمَ مَنْ يَصْلُحُ لِلْحُكْمِ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ إِذَا تَنَازَعُوا، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ أَجَازَ التَّحْكِيمَ، وَأَنَّ مَنْ رَضِيَ الْفَرِيقَانِ بِتَحْكِيمِهِ فَحُكْمُهُ جَائِزٌ عَلَيْهِمْ، وَسَيَأْتِي نَقْلُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِي مَا بَعْدَهُ، وَفِيهِ أَنَّ لِلْحَاكِمِ إِذَا تَعَارَضَتْ عِنْدَهُ الْأَحْوَالُ وَتَعَدَّدَتِ الْبَيِّنَاتُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالْقَرَائِنِ عَلَى التَّرْجِيحِ.
الْحَدِيثُ التَّاسِعَ عَشَرَ: حَدَيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي تَكَلَّمَتْ:
قَوْلُهُ: (عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) هُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ، وَقَدْ رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَسَيَأْتِي مَعَ شَرْحِهِ مُسْتَوْفًى فِي الْمَنَاقِبِ.
قَوْلُهُ: (بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً) لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ.
قَوْلُهُ: (إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا فَقَالَتْ: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الدَّوَابَّ لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِيمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِاسْتِعْمَالِهَا فِيهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهَا: إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى مُعْظَمِ مَا خُلِقَتْ لَهُ، وَلَمْ تُرِدِ الْحَصْرَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ اتِّفَاقًا، لِأَنَّ مِنْ أَجَلِّ مَا خُلِقَتْ لَهُ أَنَّهَا تُذْبَحُ وَتُؤْكَلُ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ بَطَّالٍ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ.
قَوْلُهُ: (فَإِنِّي أُؤْمِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ) هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَخْبَرَهُمَا بِذَلِكَ فَصَدَّقَاهُ، أَوْ أَطْلَقَ ذَلِكَ لِمَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُمَا يُصَدِّقَانِ بِذَلِكَ إِذَا سَمِعَاهُ وَلَا يَتَرَدَّدَانِ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (وَمَا هُمَا ثَمَّ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ، أَيْ لَيْسَا حَاضِرَيْنِ، وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ.
قَوْلُهُ: (وَبَيْنَا رَجُلٌ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي قَبْلَهُ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: (إِذْ عَدَا الذِّئْبُ) بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ الْعُدْوَانِ.
قَوْلُهُ: (هَذَا اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ اسْتَنْقَذَهَا بِإِبْهَامِ الْفَاعِلِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مِسْعَرٍ) هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ شَيْخِهِ مُفَرَّقًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِسُفْيَانَ فِيهِ إِسْنَادَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، وَالْآخَرُ: مِسْعَرٌ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَفِي كُلٍّ مِنَ الْإِسْنَادَيْنِ رِوَايَةُ الْقَرِينِ عَنْ قَرِينِهِ، لِأَنَّ الْأَعْرَجَ قَرِينُ أَبِي سَلَمَةَ كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ شَارَكَهُ فِي أَكْثَرِ شُيُوخِهِ وَلَا سِيَّمَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَإِنْ كَانَ أَبُو سَلَمَةَ أَكْبَرَ سِنًّا مِنَ الْأَعْرَجِ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَرِينَ مِسْعَرٍ، لِأَنَّهُ شَارَكَهُ فِي أَكْثَرِ شُيُوخِهِ لَا سِيَّمَا سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَإِنْ كَانَ مِسْعَرٌ أَكْبَرَ سِنًّا مِنْ سُفْيَانَ.
الحديث العشرون: حَدَيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِمَا وَلَا عَلَى اسْمِ أَحَدٍ مِمَّنْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، لَكِنْ فِي الْمُبْتَدَأ لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ هُوَ دَاوُدُ النَّبِيُّ ﵇ ; وَفِي الْمُبْتَدَأ لِإِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي زَمَنِ ذِي الْقَرْنَيْنِ مِنْ بَعْضِ قُضَاتِهِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَصَنِيعُ الْبُخَارِيِّ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ مَا وَقَعَ عِنْدَ وَهْبٍ لِكَوْنِهِ أَوْرَدَهُ فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
قَوْلُهُ: (عَقَارًا) الْعَقَارُ فِي اللُّغَةِ الْمَنْزِلُ وَالضَّيْعَةُ وَخَصَّهُ