لَهَا نَسَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (قَالَتْ: لَا وَقُرَّةِ عَيْنِي) قُرَّةُ الْعَيْنِ يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْمَسَرَّةِ وَرُؤْيَةِ مَا يُحِبُّهُ الْإِنْسَانُ وَيُوَافِقُهُ، يُقَالُ ذَلِكَ لِأَنَّ عَيْنَهُ قَرَّتْ أَيْ سَكَنَتْ حَرَكَتُهَا مِنَ التَّلَفُّتِ لِحُصُولِ غَرَضِهَا فَلَا تَسْتَشْرِفُ لِشَيْءٍ آخَرَ، فَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقَرَارِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَامَ اللَّهُ عَيْنَكَ وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى هَذَا، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقَرِّ وَهُوَ الْبَرْدُ أَيْ أَنَّ عَيْنَهُ بَارِدَةٌ لِسُرُورِهِ، وَلِهَذَا قِيلَ: دَمْعَةُ الْحُزْنِ حَارَّةٌ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ فِي ضِدِّهِ أَسْخَنَ اللَّهُ عَيْنَهُ، وَإِنَّمَا حَلَفَتْ أُمُّ رُومَانَ بِذَلِكَ لِمَا وَقَعَ عِنْدَهَا مِنَ السُّرُورِ بِالْكَرَامَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُمْ بِبَرَكَةِ الصِّدِّيقِ ﵁. وَزَعَمَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّهَا أَرَادَتْ بِقُرَّةِ عَيْنِهَا النَّبِيَّ ﷺ فَأَقْسَمَتْ بِهِ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَلَا فِي قَوْلِهَا: لَا وَقُرَّةِ عَيْنِي زَائِدَةٌ أَوْ نَافِيَةٌ عَلَى حَذْفٍ، تَقْدِيرُهُ لَا شَيْءَ غَيْرُ مَا أَقُولُ.
قَوْلُهُ: (لَهِيَ) أَيِ الْجَفْنَةُ أَوِ الْبَقِيَّةُ (أَكْثَرُ مِمَّا قَبْلُ) كَذَا هُنَا، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلُ وَهُوَ أَوْجَهُ، وَ (أَكْثَرُ) لِلْأَكْثَرِ بِالْمُثَلَّثَةِ وَلِبَعْضِهِمْ بِالْمُوَحَّدَةِ.
قَوْلُهُ: (فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ الشَّيْطَانُ، يَعْنِي يَمِينَهُ) كَذَا هُنَا وَفِيهِ حَذْفٌ تَقَدَّمَهَا تَقْدِيرُهُ: وَإِنَّمَا كَانَ الشَّيْطَانُ الْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ، يَعْنِي الْحَامِلَ عَلَى يَمِينِهِ الَّتِي حَلَفَهَا فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُهُ وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ يَعْنِي يَمِينَهُ وَهُوَ أَوْجَهُ.
وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: هَذِهِ اللُّقْمَةُ الَّتِي أَكَلَ أَيْ هَذِهِ اللُّقْمَةُ لِقَمْعِ الشَّيْطَانِ وَإِرْغَامِهِ. لِأَنَّهُ قَصَدَ بِتَزْيِينِهِ لَهُ الْيَمِينَ إِيقَاعَ الْوَحْشَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَضْيَافِهِ، فَأَخْزَاهُ أَبُو بَكْرٍ بِالْحِنْثِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَظَاهِرُ هَذَا السِّيَاقِ مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ الْجَرِيرِيِّ، فَقَالَ عِيَاضٌ: فِي هَذَا السِّيَاقِ خَطَأٌ وَتَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ الصَّوَابَ مَا فِي رِوَايَةِ الْجَرِيرِيِّ، وَهُوَ أَنَّ رِوَايَةَ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ هَذِهِ أَنَّ سَبَبَ أَكْلِ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الطَّعَامِ مَا رَآهُ مِنَ الْبَرَكَةِ فِيهِ فَرَغِبَ فِي الْأَكْلِ مِنْهُ، وَأَعْرَضَ عَنْ يَمِينِهِ الَّتِي حَلَفَ لَمَّا رَجَحَ عِنْدَهُ مِنَ التَّنَاوُلِ مِنَ الْبَرَكَةِ، وَرِوَايَةُ الْجَرِيرِيِّ تَقْتَضِي أَنَّ سَبَبَ أَكْلِهِ مِنَ الطَّعَامِ لِجَاجُ الْأَضْيَافِ وَحَلِفِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَطْعَمُونَ مِنَ الطَّعَامِ حَتَّى يَأْكُلَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَا شَكَّ فِي كَوْنِهَا أَوْجَهَ، لَكِنْ يُمْكِنُ رَدُّ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ إِلَيْهَا بِأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُهُ لَا عَلَى الْقِصَّةِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى بَرَكَةِ الطَّعَامِ، وَغَايَتُهُ أَنَّ حَلِفَ الْأَضْيَافِ أَنْ لَا يَطْعَمُوهُ لَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ لَا مِنْ أَبِيهِ، فَقَدْ وَقَعَ فِي الْأَدَبِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ فَحَلَفَتِ الْمَرْأَةُ لَا تَطْعَمُهُ حَتَّى تَطْعَمُوهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَأَنَّ هَذِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَدَعَا بِالطَّعَامِ فَأَكَلَ وَأَكَلُوا، فَجَعَلُوا لَا يَرْفَعُونَ اللُّقْمَةَ إِلَّا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْمَعَ بِأَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ أَكَلَ لِأَجْلِ تَحْلِيلِ يَمِينِهِمْ شَيْئًا، ثُمَّ لَمَّا رَأَى الْبَرَكَةَ الظَّاهِرَةَ عَادَ فَأَكَلَ مِنْهَا لِتَحْصُلَ لَهُ وَقَالَ كَالْمُعْتَذِرِ عَنْ يَمِينِهِ الَّتِي حَلَفَ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَ أَبَا بَكْرٍ، فَأَزَالَ مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْحَرَجِ، فَعَادَ مَسْرُورًا، وَانْفَكَّ الشَّيْطَانُ مَدْحُورًا. وَاسْتَعْمَلَ الصِّدِّيقُ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ فَحَنَّثَ نَفْسَهُ زِيَادَةً فِي إِكْرَامِ ضِيفَانِهِ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُهُ مِنْ أَكْلِهِمْ، وَلِكَوْنِهِ أَكْثَرَ قُدْرَةً مِنْهُمْ عَلَى الْكَفَّارَةِ.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْجَرِيرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَرُّوا وَحَنِثْتَ، فَقَالَ: بَلْ أَنْتَ أَبَرُّهُمْ وَخَيْرُهُمْ. قَالَ: وَلَمْ يَبْلُغْنِي كَفَّارَةٌ وَسَقَطَ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ الْجَرِيرِيِّ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ، وَكَأَنَّ سَبَبَ حَذْفِهِ لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ أَنَّ فِيهَا إِدْرَاجًا بَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ حَيْثُ جَاءَ فِيهَا فَأُخْبِرْتُ - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ - أَنَّهُ أَصْبَحَ فَغَدَا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ إِلَخْ وَقَوْلُهُ: (أَبَرُّهُمْ) أَيْ أَكْثَرُهُمْ بِرًّا أَيْ طَاعَةً، وَقَوْلُهُ: (وَخَيْرُهُمْ) أَيْ لِأَنَّكَ حَنِثْتَ فِي يَمِينِكَ حِنْثًا مَنْدُوبًا إِلَيْهِ مَطْلُوبًا فَأَنْتَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَقَوْلُهُ: (وَلَمْ يَبْلُغْنِي كَفَّارَةٌ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي يَمِينِ اللِّجَاجِ وَالْغَضَبِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute