الصَّدَقَةَ، وَمِنْ عِبَادَةِ الْأَقْوَالِ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ.
قَوْلُهُ: (وَلَكِنِ الَّتِي تَمُوجُ) أَيِ الْفِتْنَةَ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الصَّلَاةِ، وَالْفِتْنَةَ بِالنَّصْبِ بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ أَيْ أُرِيدُ الْفِتْنَةَ، وَيَحْتَمِلُ الرَّفْعَ أَيْ مُرَادِيَ الْفِتْنَةُ.
قَوْلُهُ: (تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ) أَيْ تَضْطَرِبُ اضْطِرَابَ الْبَحْرِ عِنْدَ هَيَجَانِهِ، وَكَنَّى بِذَلِكَ عَنْ شِدَّةِ الْمُخَاصَمَةِ وَكَثْرَةِ الْمُنَازَعَةِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الْمُشَاتَمَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ.
قَوْلُهُ: (يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا بَأْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا) زَادَ فِي رِوَايَةِ رِبْعِيٍّ تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ فَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى يَصِيرَ أَبْيَضَ مِثْلَ الصَّفَاةِ لَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ، وَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ حَتَّى يَصِيرَ أَسْوَدَ كَالْكُوزِ مَنْكُوسًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، وَحَدَّثَتْهُ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ بَابًا مُغْلَقًا.
قَوْلُهُ: (إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا) أَيْ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا شَيْءٌ فِي حَيَاتِكَ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: آثَرَ حُذَيْفَةُ الْحِرْصَ عَلَى حِفْظِ السِّرِّ وَلَمْ يُصَرِّحْ لِعُمَرَ بِمَا سَأَلَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا كَنَّى عَنْهُ كِنَايَةً، وَكَأَنَّهُ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حُذَيْفَةُ عَلِمَ أَنَّ عُمَرَ يُقْتَلُ، وَلَكِنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُخَاطِبَهُ بِالْقَتْلِ لِأَنَّ عُمَرَ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ الْبَابُ فَأَتَى بِعِبَارَةٍ يَحْصُلُ بِهَا الْمَقْصُودُ بِغَيْرِ تَصْرِيحٍ بِالْقَتْلِ انْتَهَى.
وَفِي لَفْظِ طَرِيقِ رِبْعِيٍّ مَا يُعَكِّرُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى مَا سَأَذْكُرُهُ، وَكَأَنَّهُ مَثَّلَ الْفِتَنَ بِدَارٍ، وَمَثَّلَ حَيَاةَ عُمَرَ بِبَابٍ لَهَا مُغْلَقٌ، وَمَثَّلَ مَوْتَهُ بِفَتْحِ ذَلِكَ الْبَابِ، فَمَا دَامَتْ حَيَاةُ عُمَرَ مَوْجُودَةً فَهِيَ الْبَابُ الْمُغْلَقُ لَا يَخْرُجُ مِمَّا هُوَ دَاخِلُ تِلْكَ الدَّارِ شَيْءٌ، فَإِذَا مَاتَ فَقَدِ انْفَتَحَ ذَلِكَ الْبَابُ فَخَرَجَ مَا فِي تِلْكَ الدَّارِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ يُفْتَحُ الْبَابُ أَوْ يُكْسَرُ؟ قَالَ: لَا بَلْ يُكْسَرُ، قَالَ: ذَلِكَ أَحْرَى أَنْ لَا يُغْلَقَ) زَادَ فِي الصِّيَامِ ذَاكَ أَجْدَرُ أَنْ لَا يُغْلَقَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْغَلْقَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي الصَّحِيحِ، فَأَمَّا إِذَا انْكَسَرَ فَلَا يُتَصَوَّرُ غَلْقُهُ حَتَّى يُجْبَرَ انْتَهَى.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَنَّى عَنِ الْمَوْتِ بِالْفَتْحِ وَعَنِ الْقَتْلِ بِالْكَسْرِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي رِوَايَةِ رِبْعِيٍّ فَقَالَ عُمَرُ كَسْرًا لَا أَبَا لَكَ لَكِنْ بَقِيَّةُ رِوَايَةِ رِبْعِيٍّ تَدُلُّ عَلَى مَا قَدَّمْتُهُ، فَإِنَّ فِيهِ: وَحَدَّثْتُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْبَابَ رَجُلٌ يُقْتَلُ، أَوْ يَمُوتُ وَإِنَّمَا قَالَ عُمَرُ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ فِي وُقُوعِ الْفِتَنِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَوُقُوعِ الْبَأْسِ بَيْنَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَسَيَأْتِي فِي الِاعْتِصَامِ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ الْآيَةَ.
وَقَدْ وَافَقَ حُذَيْفَةُ عَلَى مَعْنَى رِوَايَتِهِ هَذِهِ أَبُو ذَرٍّ، فَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ أَنَّهُ لَقِيَ عُمَرَ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَغَمَزَهَا، فَقَالَ لَهُ أَبُو ذَرٍّ: أَرْسِلْ يَدِي يَا قُفْلَ الْفِتْنَةِ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ قَالَ: لَا يُصِيبُكُمْ فِتْنَةٌ مَا دَامَ فِيكُمْ وَأَشَارَ إِلَى عُمَرَ. وَرَوَى الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ عَنْ أَخِيهِ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ: يَا غَلْقَ الْفِتْنَةِ، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: مَرَرْتُ وَنَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: هَذَا غَلْقُ الْفِتْنَةِ، لَا يَزَالُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْفِتْنَةِ بَابٌ شَدِيدُ الْغَلْقِ مَا عَاشَ.
قَوْلُهُ: (قُلْنَا عَلِمَ عُمَرُ الْبَابَ) فِي رِوَايَةِ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ فَقُلْنَا لِمَسْرُوقٍ: سَلْهُ أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ مَنِ الْبَابُ؟ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: نَعَمْ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ فَقَالَ مَسْرُوقٌ، لِحُذَيْفَةَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ كَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (كَمَا أَنَّ دُونَ غَدٍ اللَّيْلَةَ) أَيْ أَنَّ لَيْلَةَ غَدٍ أَقْرَبُ إِلَى الْيَوْمِ مِنْ غَدٍ.
قَوْلُهُ: (إِنِّي حَدَّثْتُهُ) هُوَ بَقِيَّةُ كَلَامِ حُذَيْفَةَ، وَالْأَغَالِيطُ جَمْعُ أُغْلُوطَةٍ وَهُوَ مَا يُغَالَطُ بِهِ، أَيْ حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا صِدْقًا مُحَقَّقًا مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ لَا عَنِ اجْتِهَادٍ وَلَا رَأْيٍ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا عَلِمَ عُمَرُ أَنَّهُ الْبَابُ لِأَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى حِرَاءَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُثْمَانُ، فَرَجَفَ، فَقَالَ: اثْبُتْ ; فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ أَوْ فُهِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ حُذَيْفَةَ بَلْ يُكْسَرُ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ عُمَرَ عَلِمَ الْبَابَ بِالنَّصِّ كَمَا قَدَّمْتُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَأَبِي ذَرٍّ، فَلَعَلَّ حُذَيْفَةَ حَضَرَ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ حَدِيثُ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ خُطْبَةَ النَّبِيِّ ﷺ يُحَدِّثُ عَنْ بَدْءِ الْخَلْقِ حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ.
وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ