قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِكُلِّ فِتْنَةٍ هِيَ كَائِنَةٌ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ السَّاعَةِ وَفِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مَعَهُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ جَمَاعَةٌ مَاتُوا قَبْلَهُ، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ عُمَرُ عَارِفًا بِذَلِكَ فَلِمَ شَكَّ فِيهِ حَتَّى سَأَلَ عَنْهُ؟ فَالْجَوَابُ أَن ذَلِكَ يَقَعُ مِثْلُهُ عِنْدَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، أَوْ لَعَلَّهُ خَشِيَ أَنْ يَكُونَ نَسِيَ فَسَأَلَ مَنْ يُذَكِّرُهُ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ.
قَوْلُهُ: (فَهِبْنَا) بِكَسْرِ الْهَاءِ أَيْ خِفْنَا، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى حُسْنِ تَأَدُّبِهِمْ مَعَ كِبَارِهِمْ.
قَوْلُهُ: (وَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا) هُوَ ابْنُ الْأَجْدَعِ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَكَانَ مِنْ أَخِصَّاءِ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ.
قَوْلُهُ: (فَسَأَلَهُ فَقَالَ: مَنِ الْبَابُ؟ قَالَ: عُمَرُ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: تَقَدَّمَ قَوْلُهُ إِنَّ بَيْنَ الْفِتْنَةِ وَبَيْنَ عُمَرَ بَابًا فَكَيْفَ يُفَسَّرُ الْبَابُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ عُمَرُ؟! وَالْجَوَابُ أَنَّ فِي الْأَوَّلِ تَجَوُّزًا، وَالْمُرَادُ بَيْنَ الْفِتْنَةِ وَبَيْنَ حَيَاةِ عُمَرَ، أَوْ بَيْنَ نَفْسِ عُمَرَ وَبَيْنَ الْفِتْنَةِ بَدَنُهُ ; لِأَنَّ الْبَدَنَ غَيْرُ النَّفْسِ.
(تَنْبِيهٌ):
غَالِبُ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَهَلُمَّ جَرَّا يَتَعَلَّقُ بِإِخْبَارِهِ ﷺ عَنِ الْأُمُورِ الْآتِيَةِ بَعْدَهُ فَوَقَعَتْ عَلَى وَفْقِ مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَالْيَسِيرُ مِنْهَا وَقَعَ فِي زَمَانِهِ، وَلَيْسَ فِي جَمِيعِهَا مَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا حَدِيثُ الْبَرَاءِ فِي نُزُولِ السَّكِينَةِ، وَحَدِيثُهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ فِي قِصَّةِ سُرَاقَةَ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ فِي الَّذِي ارْتَدَّ فَلَمْ تَقْبَلْهُ الْأَرْضُ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا قِتَالُ التُّرْكِ، وَقَدْ أَتَى رَدُّهُ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا سَأَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ، ثَانِيهَا حَدِيثُ: تَجِدُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ أَشَدَّهُمْ كَرَاهِيَةً لِهَذَا الشَّأْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَّلِ الْمَنَاقِبِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَتَجِدُونَ أَشَدَّ النَّاسِ كَرَاهِيَةً لِهَذَا الْأَمْرِ حَتَّى يَقَعَ فِيهِ كَذَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ مُخْتَصَرًا إِلَّا فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْمُسْتَمْلِي فَأَوْرَدَهُ بِتَمَامِهِ وَبِهِ يَتِمُّ الْمَعْنَى.
ثَالِثُهَا حَدِيثُ النَّاسُ مَعَادِنُ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمَنَاقِبِ أَيْضًا. رَابِعُهَا حَدِيثُ: يَأْتِيَنَّ عَلَى أَحَدِكُمْ زَمَانٌ لَأَنْ يَرَانِي أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ أَهْلِهِ وَمَالِهِ.
قَالَ عِيَاضٌ: وَقَدْ وَقَعَ لِلْجَمِيعِ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَحَدِكُمْ لَكِنْ وَقَعَ لِأَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ فِي عَرْضَةِ بَغْدَادَ أَحَدِهِمْ بِالْهَاءِ، وَالصَّوَابُ بِالْكَافِ، كَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ انْتَهَى.
وَالْأَحَادِيثُ الْأَرْبَعَةُ تَدْخُلُ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ لِإِخْبَارِهِ فِيهَا عَمَّا لَا يَقَعُ فَوَقَعَ كَمَا قَالَ، لَا سِيَّمَا الْحَدِيثُ الْأَخِيرُ، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ ﷺ كَانَ يَوَدُّ لَوْ كَانَ رَآهُ وَفَقَدَ مِثْلَ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا يَتَمَنَّى مِثْلَ ذَلِكَ فَكَيْفَ بِهِمْ مَعَ عَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُمْ وَمَحَبَّتِهِمْ فِيهِ
الْحَدِيثُ الْخَامِسَ عَشَرَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْرَدَهُ مِنْ طُرُقٍ.
قَوْلُهُ: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا خُوزًا) هُوَ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا زَايٌ: قَوْمٌ مِنَ الْعَجَمِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: وَهِمَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فَقَالَهُ بِالْجِيمِ بَدَلَ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَكِرْمَانَ) هُوَ بِكَسْرِ الْكَافِ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَيُقَالُ بِفَتْحِهَا وَهُوَ مَا صَحَّحَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، ثُمَّ قَالَ: لَكِنِ اشْتُهِرَ بِالْكَسْرِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِبَلَدِنَا. قُلْتُ: جَزَمَ بِالْفَتْحِ ابْنُ الْجَوَالِيقِيِّ وَقَبِلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيُّ، وَجَزَمَ بِالْكَسْرِ الْأَصِيلِيُّ، وَعَبْدُوسٌ، وَتَبِعَ ابْنَ السَّمْعَانِيِّ، يَاقُوتٌ، وَالصَّغَانِيُّ، لَكِنْ نَسَبَ الْكَسْرَ لِلْعَامَّةِ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ الْوَجْهَيْنِ وَالرَّاءُ سَاكِنَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَتَقَدَّمَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا تُقَاتِلُونَ التُّرْكَ وَاسْتُشْكِلَ لِأَنَّ خُوزًا وَكِرْمَانَ لَيْسَا مِنْ بِلَادِ التُّرْكِ، أَمَّا خُوزٌ فَمِنْ بِلَادِ الْأَهْوَازِ وَهِيَ مِنْ عِرَاقِ الْعَجَمِ.
وَقِيلَ: الْخُوزُ صِنْفٌ مِنَ الْأَعَاجِمِ، وَأَمَّا كِرْمَانُ فَبَلْدَةٌ مَشْهُورَةٌ مِنْ بِلَادِ الْعَجَمِ أَيْضًا بَيْنَ خُرَاسَانَ وَبَحْرِ الْهِنْدِ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ خَوْرَ كِرْمَانَ بِرَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَبِالْإِضَافَةِ وَالْإِشْكَالُ بَاقٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ حَدِيثِ قِتَالِ التُّرْكِ، وَيَجْتَمِعُ مِنْهُمَا الْإِنْذَارُ بِخُرُوجِ الطَّائِفَتَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي الْجِهَادِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ التُّرْكَ قَوْمًا كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمِجَانُّ الْمُطْرَقَةُ، يَلْبَسُونَ الشَّعْرَ