فَصَامُوهُ شُكْرًا.
الثَّانِي: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: (كَانُوا يَرَوْنَ) أَيْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ لَا يُنْسَكُ فِيهَا إِلَّا بِالْحَجِّ وَأَنَّ غَيْرَهَا مِنَ الْأَشْهُرِ لِلْعُمْرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْحَجِّ.
الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: (كَانَ عَمْرٌو) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ جَدِّهِ) هُوَ حَزْنٌ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الزَّايِ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي وَهْبٍ الَّذِي قَدَّمْنَا أَنَّهُ أَشَارَ عَلَى قُرَيْشٍ بِأَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ مِنْ مَالٍ طَيِّبٍ.
قَوْلُهُ: (جَاءَ سَيْلٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَطَبَّقَ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ) أَيْ مَلَأَ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي جَانِبَيِ الْكَعْبَةِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ سُفْيَانُ: وَيَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَهُ شَأْنٌ) أَيْ قِصَّةٌ، وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّ السَّيْلَ كَانَ يَأْتِي مِنْ فَوْقِ الرَّدْمِ الَّذِي بِأَعْلَى مَكَّةَ فَيُجْرِيهِ، فَتَخَوَّفُوا أَنْ يَدْخُلَ الْمَاءُ الْكَعْبَةَ فَأَرَادُوا تَشْيِيدَ بُنْيَانَهَا، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ طَلَعَهَا وَهَدَمَ مِنْهَا شَيْئًا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَذَكَرَ الْقِصَّةَ فِي بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ قَبْلَ الْمَبْعَثِ النَّبَوِيِّ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ بِسَنَدٍ لَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ كَعْبًا قَالَ لَهُ وَهُوَ يَعْمَلُ بِنَاءَ مَكَّةَ: اشْدُدْهُ وَأَوْثِقْهُ، فَإِنَّا نَجِدُ فِي الْكُتُبِ أَنَّ السُّيُولَ سَتَعْظُمُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ اهـ. فَكَانَ الشَّأْنُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ أَنَّهُمُ اسْتَشْعَرُوا مِنْ ذَلِكَ السَّيْلِ الَّذِي لَمْ يَعْهَدُوا مِثْلَهُ أَنَّهُ مَبْدَأُ السُّيُولِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: (دَخَلَ) أَيْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ.
قَوْلُهُ: (عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ أَحْمَسَ) بِمُهْمَلَتَيْنِ وَزْنَ أَحْمَدَ، وَهِيَ قَبِيلَةٌ مِنْ بَجِيلَةَ. وَأَغْرَبَ ابْنُ التِّينِ فَقَالَ: الْمُرَادُ امْرَأَةٌ مِنَ الْحَمَسِ وَهِيَ مِنْ قُرَيْشٍ.
قَوْلُهُ: (يُقَالُ لَهَا: زَيْنَبُ بِنْتُ الْمُهَاجِرِ) رَوَى حَدِيثَهَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرٍ الْأَحْمَسِيِّ عَنْ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ الْمُهَاجِرِ قَالَتْ: خَرَجْتُ حَاجَّةً فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَذَكَرَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ فِي ذَيْلِ الصَّحَابَةِ أَنَّ ابْنَ مَنْدَهْ ذَكَرَ فِي تَارِيخِ النِّسَاءِ لَهُ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَابِرٍ أَدْرَكَتِ النَّبِيَّ ﷺ وَرَوَتْ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَرَوَى عَنْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَابِرٍ وَهِيَ عَمَّتُهُ قَالَ: وَقِيلَ: هِيَ بِنْتُ الْمُهَاجِرِ بْنِ جَابِرٍ، وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ شَرِيكٍ وَغَيْرِهِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ عَوْفٍ، قَالَ: وَذَكَرَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ أَنَّهَا جَدَّةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُهَاجِرِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُمْكِنٌ بِأَنَّ مَنْ قَالَ: بِنْتُ الْمُهَاجِرِ نَسَبَهَا إِلَى أَبِيهَا أَوْ بِنْتُ جَابِرٍ نَسَبَهَا إِلَى جَدِّهَا الْأَدْنَى أَوْ بِنْتُ عَوْفٍ نَسَبَهَا إِلَى جَدٍّ لَهَا أَعْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (مُصْمَتَةٌ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ سَاكِتَةٌ يُقَالُ: أَصَمْتَ وَصَمَتَ بِمَعْنًى.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ) يَعْنِي تَرْكَ الْكَلَامِ. وَوَقَعَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّ الْمَرْأَةَ قَالَتْ لَهُ: كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ شَرٌّ، فَحَلَفْتُ إِنِ اللَّهُ عَافَانَا مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا أُكَلِّمَ أَحَدًا حَتَّى أَحُجَّ. فَقَالَ: إِنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ ذَلِكَ، فَتَكَلَّمِي وَلِلْفَاكِهِيِّ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ نَحْوَهُ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ هَذَا مَنْ قَالَ بِأَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَأْمُرْهَا بِالْكَفَّارَةِ، وَقِيَاسُهُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَطْلَقَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ وَأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَّ الْإِسْلَامَ هَدَمَ ذَلِكَ، وَلَا يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ مِثْلَ هَذَا إِلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ أَبِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ وَلَا يَرْكَبَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَرْكَبَ وَيَسْتَظِلَّ وَيَتَكَلَّمَ، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ رَفَعَهُ: لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ، وَلَا صَمْتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي شَرْحِهِ: كَانَ مِنْ نُسُكِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الصَّمْتُ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَعْتَكِفُ الْيَوْمَ وَاللَّيْلَةَ وَيَصْمُتُ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَأُمِرُوا بِالنُّطْقِ بِالْخَيْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: لَيْسَ مِنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ الصَّمْتُ عَنِ الْكَلَامِ، وَظَاهِرُ الْأَخْبَارِ تَحْرِيمُهُ، وَاحْتَجَّ