دِينَنَا، وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا. فَبَيْنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ، فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ، فَلَمَّا مَرَّ بِهِمْ غَمَزُوهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ فِي الثَّالِثَةِ: لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ. وَأَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا كُنْتَ جَاهِلًا، فَانْصَرِفْ رَاشِدًا، فَانْصَرَفَ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ اجْتَمَعُوا فَقَالُوا: ذَكَرْتُمْ مَا بَلَغَ مِنْكُمْ حَتَّى إِذَا أَتَاكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَ تَرَكْتُمُوهُ، فَبَيْنَمَا كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ فَقَالُوا: قُومُوا إِلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْهُمْ أَخَذَ بِمَجَامِعِ ثِيَابِهِ، وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ دُونَهُ وَهُوَ يَبْكِي فَقَالَ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ؟ ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ) أَيِ ابْنِ عُرْوَةَ (عَنْ أَبِيهِ، قِيلَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) هَكَذَا خَالَفَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ أَخَاهُ يَحْيَى بْنَ عُرْوَةَ فِي الصَّحَابِيِّ، فَقَالَ يَحْيَى: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَقَالَ هِشَامٌ: عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَيُرَجِّحُ رِوَايَةَ يَحْيَى مُوَافَقَةُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَلَى أَنَّ قَوْلَ هِشَامٍ غَيْرُ مَدْفُوعٍ، لِأَنَّ لَهُ أَصْلًا مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، بِدَلِيلِ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَمْرٍو الْآتِيَةِ عَقِبَ هَذَا، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عُرْوَةُ سَأَلَهُ مَرَّةً وَسَأَلَ أَبَاهُ أُخْرَى، وَيُؤَيِّدُهُ اخْتِلَافُ السِّيَاقَيْنِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُرْوَةَ رَوَاهُ عَنْ أَبِيهِ بِإِسْنَادٍ آخَرَ عَنْ عُثْمَانَ فَلَا مَانِعَ مِنَ التَّعَدُّدِ، نَعَمْ لَمْ تَتَّفِقِ الرُّوَاةُ عَنْ هِشَامٍ عَلَى قَوْلِهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ؛ فَإِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ بِلَالٍ وَافَقَ عَبْدَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَخَالَفَهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ فَقَالَ: عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ) وَصَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى، وَابْنُ حِبَّانَ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو وَلَفْظُهُ: مَا رَأَيْتُ قُرَيْشًا أَرَادُوا قَتْلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَّا يَوْمًا أُغْرُوا بِهِ وَهُمْ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ جُلُوسٌ وَهُوَ يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عُقْبَةُ فَجَعَلَ رِدَاءَهُ فِي عُنُقِهِ ثُمَّ جَذَبَهُ لِرُكْبَتَيْهِ وَتَصَايَحَ النَّاسُ، وَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ يَشْتَدُّ حَتَّى أَخَذَ بِضَبْعِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ وَرَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ؟ ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ مَرَّ بِهِمْ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ إِلَّا بِالذَّبْحِ. فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: يَا مُحَمَّدُ مَا كُنْتَ جَهُولًا. فَقَالَ: أَنْتَ مِنْهُمْ. وَيَدُلُّ عَلَى التَّعَدُّدِ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ فَاطِمَةَ ﵍ قَالَتْ: اجْتَمَعَ الْمُشْرِكُونَ فِي الْحِجْرِ فَقَالُوا: إِذَا مَرَّ مُحَمَّدٌ ضَرَبَهُ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا ضَرْبَةً، فَسَمِعْتُ ذَلِكَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: اسْكُتِي يَا بُنَيَّةُ.
ثُمَّ خَرَجَ فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ، فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ ثُمَّ نَكَسُوا، قَالَتْ: فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَرَمَى بِهَا نَحْوَهَا ثُمَّ قَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ، فَمَا أَصَابَ رَجُلًا مِنْهُمْ إِلَّا قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى، وَالْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَقَدْ ضَرَبُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَرَّةً حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَجَعَلَ يُنَادِي: وَيْلَكُمْ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ؟ فَتَرَكُوهُ وَأَقْبَلُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَهَذَا مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مُطَوَّلًا مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهَا: مَا أَشَدُّ مَا رَأَيْتِ الْمُشْرِكِينَ بَلَغُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟ فَذَكَرَ نَحْوَ سِيَاقِ ابْنِ إِسْحَاقَ الْمُتَقَدِّمِ قَرِيبًا وَفِيهِ فَأَتَى الصَّرِيخُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: أَدْرِكْ صَاحِبَكَ. قالت: فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِنَا وَلَهُ غَدَائِرُ أَرْبَعُ وَهُوَ يَقُولُ: وَيْلَكُمْ، أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ؟ فَلَهَوْا عَنْهُ، وَأَقْبَلُوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَرَجَعَ إِلَيْنَا أَبُو بَكْرٍ فَجَعَلَ لَا يَمَسُّ شَيْئًا مِنْ غَدَائِرِهِ إِلَّا رَجَعَ مَعَهُ. وَلِقِصَّةِ أَبِي بَكْرٍ هَذِهِ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ مَنْ أَشْجَعُ النَّاسِ؟ فَقَالُوا: أَنْتَ. قَالَ: أَمَا إِنِّي مَا بَارَزَنِي أَحَدٌ إِلَّا أَنْصَفْتُ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ أَبُو بَكْرٍ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَخَذَتْهُ قُرَيْشٌ فَهَذَا يَجَؤُهُ وَهَذَا يَتَلَقَّاهُ وَيَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ تَجْعَلُ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا. فَوَاللَّهِ مَا دَنَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ يَضْرِبُ هَذَا وَيَدْفَعُ هَذَا وَيَقُولُ: وَيْلَكُمْ أَتَقْتُلُونَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute