للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِتَكْذِيبِهِ فِيهِ فَطَلَبُوا مِنْهُ نَعْتَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِهِ وَعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ مَا كَانَ رَآهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَأَمْكَنَهُمُ اسْتِعْلَامُ صِدْقِهِ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ الْمِعْرَاجِ، وَيُؤَيِّدُ وُقُوعَ الْمِعْرَاجِ عَقِبَ الْإِسْرَاءِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ رِوَايَةُ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، فَفِي أَوَّلِهِ: أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ فَرَكِبْتُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. فَذَكَرَ الْقِصَّةَ إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا فَرَغْتُ مِمَّا كَانَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ أُتِيَ بِالْمِعْرَاجِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَوَقَعَ فِي أَوَّلِ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ الْإِسْرَاءَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَصَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَتِهِ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.

وَاحْتَجَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِسْرَاءَ وَقَعَ مُفْرَدًا بِمَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ أُسْرِيَ بِكَ؟ قَالَ: صَلَّيْتُ صَلَاةَ الْعَتَمَةِ بِمَكَّةَ فَأَتَانِي جِبْرِيلُ بِدَابَّةٍ … فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي مَجِيئِهِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَمَا وَقَعَ لَهُ فِيهِ، قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفَ بِي، فَمَرَرْنَا بِعِيرٍ لِقُرَيْشٍ بِمَكَانِ كَذَا فَذَكَرَهُ قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ أَصْحَابِي قَبْلَ الصُّبْحِ بِمَكَّةَ، وَفِي حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَأَبِي يَعْلَى نَحْوَ مَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ الْمِعْرَاجَ كَانَ مَنَامًا عَلَى ظَاهِرِ رِوَايَةِ شَرِيكٍ، عَنْ أَنَسٍ فَيَنْتَظِمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْإِسْرَاءَ وَقَعَ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً عَلَى انْفِرَادِهِ وَمَرَّةً مَضْمُومًا إِلَيْهِ الْمِعْرَاجُ وَكِلَاهُمَا فِي الْيَقَظَةِ، وَالْمِعْرَاجُ وَقَعَ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً فِي الْمَنَامِ عَلَى انْفِرَادِهِ تَوْطِئَةً وَتَمْهِيدًا، وَمَرَّةً فِي الْيَقَظَةِ مَضْمُومًا إِلَى الْإِسْرَاءِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ قَبْلَ الْبَعْثِ فَلَا يَثْبُتُ، وَيَأْتِي مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ شَرِيكٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَجَنَحَ الْإِمَامُ أَبُو شَامَةَ إِلَى وُقُوعِ الْمِعْرَاجِ مِرَارًا، وَاسْتَنَدَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ قَالَ: بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ إِذْ جَاءَ جِبْرِيلُ فَوَكَزَ بَيْنَ كَتِفَيَّ، فَقُمْنَا إِلَى شَجَرَةٍ فِيهَا مِثْلُ وَكْرَيِ الطَّائِرِ، فَقَعَدْتُ فِي أَحَدِهِمَا وَقَعَدَ جِبْرِيلُ فِي الْآخَرِ، فَارْتَفَعَتْ حَتَّى سَدَّتِ الْخَافِقَيْنِ، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: فَفُتِحَ لِي بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَرَأَيْتُ النُّورَ الْأَعْظَمَ، وَإِذَا دُونَهُ حِجَابُ رَفْرَفِ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، وَرِجَالُهُ لَا بَأْسَ بِهِمْ، إِلَّا أَنَّ الدَّارَقُطْنِيَّ ذَكَرَ لَهُ عِلَّةً تَقْتَضِي إِرْسَالَهُ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهِيَ قِصَّةٌ أُخْرَى الظَّاهِرُ أَنَّهَا وَقَعَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَلَا بُعْدَ فِي وُقُوعِ أَمْثَالِهَا، وَإِنَّمَا الْمُسْتَبْعَدُ وُقُوعُ التَّعَدُّدِ فِي قِصَّةِ الْمِعْرَاجِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا سُؤَالُهُ عَنْ كُلِّ نَبِيٍّ وَسُؤَالُ أَهْلِ كُلِّ بَابٍ هَلْ بُعِثَ إِلَيْهِ، وَفَرْضُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ تَعَدُّدَ ذَلِكَ فِي الْيَقَظَةِ لَا يُتَّجَهُ، فَيَتَعَيَّنُ رَدُّ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ إِلَى بَعْضٍ، أَوِ التَّرْجِيحُ إِلَّا أَنَّهُ لَا بُعْدَ فِي جَمِيعِ وُقُوعِ ذَلِكَ فِي الْمَنَامِ تَوْطِئَةً ثُمَّ وُقُوعُهُ فِي الْيَقَظَةِ عَلَى وَفْقِهِ كَمَا قَدَّمْتُهُ.

وَمِنَ الْمُسْتَغْرَبِ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي تَفْسِيرِهِ: كَانَ الْإِسْرَاءُ فِي النَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ، وَوَقَعَ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ. فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ تَخْصِيصَ الْمَدِينَةِ بِالنَّوْمِ وَيَكُونُ كَلَامُهُ عَلَى طَرِيقِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ غَيْرِ الْمُرَتَّبِ فَيَحْتَمِلُ وَيَكُونُ الْإِسْرَاءُ الَّذِي اتَّصَلَ بِهِ الْمِعْرَاجُ وَفُرِضَتْ فِيهِ الصَّلَوَاتُ فِي الْيَقَظَةِ بِمَكَّةَ وَالْآخَرُ فِي الْمَنَامِ بِالْمَدِينَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ فِيهِ أَنَّ الْإِسْرَاءَ فِي الْمَنَامِ تَكَرَّرَ فِي الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَفِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ سَمُرَةَ الطَّوِيلِ الْمَاضِي فِي الْجَنَائِزِ، وَفِي غَيْرِهِ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ الطَّوِيلِ، وَفِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رُؤْيَاهُ الْأَنْبِيَاءَ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (سُبْحَانَ) أَصْلُهَا لِلتَّنْزِيهِ، وَتُطْلَقُ فِي مَوْضِعِ التَّعَجُّبِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ الْمَعْنَى تَنَزَّهَ اللَّهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ كَذَّابًا، وَعَلَى الثَّانِي عَجَّبَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى رَسُولِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، أَيْ: سَبِّحُوا الَّذِي أَسْرَى.

قَوْلُهُ: (أَسْرَى) مَأْخُوذٌ مِنَ السُّرَى وَهُوَ سَيْرُ اللَّيْلِ، تَقُولُ: أَسْرَى وَسَرَى إِذَا سَارَ لَيْلًا بِمَعْنًى، هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: أَسْرَى: سَارَ لَيْلًا، وَسَرَى سَارَ نَهَارًا، وَقِيلَ: أَسْرَى: سَارَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَسَرَى سَارَ مِنْ آخِرِهِ وَهَذَا أَقْرَبُ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ﴿أَسْرَى