فَلْيُبْدِ لَنَا صَفْحَةَ وَجْهِهِ، وَالْقَرْنُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ فِي الْوَجْهِ، وَالْمَعْنَى فَلْيُظْهِرْ لَنَا نَفْسَهُ وَلَا يُخْفِيهَا. قِيلَ: أَرَادَ عَلِيًّا وَعَرَّضَ بِالْحَسَنِ، وَالْحُسَيْنِ، وَقِيلَ: أَرَادَ عُمَرَ وَعَرَّضَ بِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَفِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ يُبَالِغُ فِي تَعْظِيمِ عُمَرَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَبِيبِ بْنَ أَبِي ثَابِتٍ أَيْضًا قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا حَدَّثْتُ نَفْسِي بِالدُّنْيَا قَبْلَ يَوْمَئِذٍ أَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ لَهُ: يَطْمَعُ فِيهِ مَنْ ضَرَبَكَ وَأَبَاكَ عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى أَدْخَلَكُمَا فِيهِ، فَذَكَرْتُ الْجَنَّةَ فَأَعْرَضْتُ عَنْهُ. وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ إِدْخَالِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، لِأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ قَائِدَ الْأَحْزَابِ يَوْمَئِذٍ.
قَوْلُهُ: (قَالَ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ) أَيِ ابْنُ مَالِكٍ الْفِهْرِيُّ، صَحَابِيٌّ صَغِيرٌ، وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ، وَكَانَ قَدْ سَكَنَ الشَّامَ وَأَرْسَلَهُ مُعَاوِيَةُ فِي عَسْكَرٍ لِنَصْرِ عُثْمَانَ فَقُتِلَ عُثْمَانُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ، فَرَجَعَ فَكَانَ مَعَ مُعَاوِيَةَ، وَوَلَّاهُ غَزْوَةَ الرُّومِ، فَكَانَ يُقَالُ لَهُ: حَبِيبُ الرُّومِ لِكَثْرَةِ دُخُولِهِ عَلَيْهِمْ وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ.
قَوْلُهُ: (فَهَلَّا أَجَبْتَهُ) أَيْ هَلَّا أَجَبْتَ مُعَاوِيَةَ عَنْ تِلْكَ الْمَقَالَةِ، فَأَعْلَمَهُ ابْنُ عُمَرَ بِالَّذِي مَنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: حَلَلْتُ حُبْوَتِي إِلَخْ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَلَنَحْنُ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُ وَمِنْ أَبِيهِ يُعَرِّضُ بِابْنِ عُمَرَ فَعُرِفَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ مُنَاسَبَةُ قَوْلِ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ، لِابْنِ عُمَرَ: هَلَّا أَجَبْتَهُ. وَالْحُبْوَةُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ ثَوْبٌ يُلْقَى عَلَى الظَّهْرِ وَيُرْبَطُ طَرَفَاهُ عَلَى السَّاقَيْنِ بَعْدَ ضَمِّهِمَا.
قَوْلُهُ: (مَنْ قَاتَلَكَ وَأَبَاكَ عَلَى الْإِسْلَامِ) يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ وَيَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْمُقَاتَلَةِ عَلِيٌّ وَجَمِيعُ مَنْ شَهِدَهَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. وَمِنْ هُنَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ إِدْخَالِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ؛ لِأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَالِدَ مُعَاوِيَةَ كَانَ رَأْسَ الْأَحْزَابِ يَوْمَئِذٍ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ أَيْضًا قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَمَا حَدَّثْتُ نَفْسِي بِالدُّنْيَا قَبْلَ يَوْمَئِذٍ، أَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ لَهُ: يَطْمَعُ فِيهِ مَنْ قَاتَلَكَ وَأَبَاكَ عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى أَدْخَلَكُمَا فِيهِ فَذَكَرْتُ الْجَنَّةَ فَأَعْرَضْتُ عَنْهُ وَكَانَ رَأْيُ مُعَاوِيَةَ فِي الْخِلَافَةِ تَقْدِيمُ الْفَاضِلِ فِي الْقُوَّةِ وَالرَّأْيِ وَالْمَعْرِفَةِ عَلَى الْفَاضِلِ فِي السَّبَقِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ وَالْعِبَادَةِ، فَلِهَذَا أَطْلَقَ أَنَّهُ أَحَقُّ، وَرَأْيُ ابْنِ عُمَرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يُبَايَعُ الْمَفْضُولُ إِلَّا إِذَا خُشِيَ الْفِتْنَةُ، وَلِهَذَا بَايَعَ بَعْدَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ ثُمَّ ابْنَهُ يَزِيدَ وَنَهَى بَنِيهِ عَنْ نَقْضِ بَيْعَتِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفِتَنِ، وَبَايَعَ بَعْدَ ذَلِكَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ.
قَوْلُهُ: (وَيُحْمَلُ عَنِّي غَيْرُ ذَلِكَ) أَيْ غَيْرُ مَا أَرَدْتُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ مُنْقَطِعَةٍ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَخْرَجَهَا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمَّا قَالَ مُعَاوِيَةُ: مَنْ أَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنَّا وَمَنْ يُنَازِعُنَا؟ فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُولَ: الَّذِينَ قَاتَلُوكَ وَأَبَاكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَخَشِيتُ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِي هِرَاقَةُ الدِّمَاءِ، وَأَنْ يُحْمَلَ قَوْلِي عَلَى غَيْرِ الَّذِي أَرَدْتُ.
قَوْلُهُ: (فَذَكَرْتُ مَا أَعَدَّ اللَّهُ فِي الْجِنَانِ) أَيْ لِمَنْ صَبَرَ وَآثَرَ الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا.
قَوْلُهُ: (قَالَ حَبِيبٌ) أَيِ ابْنُ مَسْلَمَةَ الْمَذْكُورُ حُفِظْتَ وَعُصِمْتَ بِضَمِّ أَوَّلِهِمَا أَيْ أَنَّهُ صَوَّبَ رَأْيَهُ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْمَذْكُورَ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ مَحْمُودٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: وَنَوْسَاتُهَا) أَيْ إِنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ رَوَى عَنْ مَعْمَرٍ شَيْخِ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ هَذَا الْحَدِيثَ كَمَا رَوَاهُ هِشَامٌ فَخَالَفَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ فَقَالَ: نَوْسَاتُهَا وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَطَرِيقُ مَحْمُودٍ هَذَا وَهُوَ ابْنُ غَيْلَانَ الْمَرْوَزِيُّ وَصَلَهَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ الْجَوْهَرِيُّ فِي كِتَابِ أَخْبَارِ الْخَوَارِجِ لَهُ قَالَ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ الْمَرْوَزِيُّ أَنْبَأْنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ فَذَكَرَهُ بِالْإِسْنَادَيْنِ مَعًا، وَسَاقَ الْمَتْنَ بِتَمَامِهِ، وَأَوَّلُهُ دَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ وَنَوْسَاتُهَا تَنْطِفُ وَقَدْ ذَكَرْتُ مَا فِي رِوَايَتِهِ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute