آمَنُ أَنْ يَكُونَ لِسَعْدٍ فِي قُرَيْشٍ صَوْلَةٌ. فَقَالَ لِعَلِيٍّ: أَدْرِكْهُ فَخُذِ الرَّايَةَ مِنْهُ فَكُنْ أَنْتَ تَدْخُلْ بِهَا. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الرَّجُلُ الْمَذْكُورُ هُوَ عُمَرُ.
قُلْتُ: وَفِيهِ بُعْدٌ؛ لِأَنَّ عُمَرَ كَانَ مَعْرُوفًا بِشِدَّةِ الْبَأْسِ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ رَوَى الْأُمَوِيُّ فِي الْمَغَازِي أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ لَمَّا حَاذَاهُ: أُمِرْتُ بِقَتْلِ قَوْمِكَ؟ قَالَ: لَا. فَذَكَرَ لَهُ مَا قَالَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، ثُمَّ نَاشَدَهُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ، فَقَالَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَرْحَمَةِ، الْيَوْمُ يَعِزُّ اللَّهُ قُرَيْشًا. وَأَرْسَلَ إِلَى سَعْدٍ فَأَخَذَ الرَّايَةَ مِنْهُ فَدَفَعَهَا إِلَى ابْنِهِ قَيْسٍ. وَعِنْدَ ابْنِ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ذَلِكَ عَارَضَتِ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَتْ:
يَا نَبِيَّ الْهُدَى إِلَيْكَ لَجَا … حَيُّ قُرَيْشٍ وَلَاتَ حِينَ لَجَاءٍ
حِينَ ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ سَعَةُ الْأَرضِ … وَعَادَاهُمْ إِلَهُ السَّمَاءِ
إِنَّ سَعْدًا يُرِيدُ قَاصِمَةَ الظَّهْرِ … بِأَهْلِ الْحُجُونِ وَالْبَطْحَاءِ
فَلَمَّا سَمِعَ هَذَا الشِّعْرَ دَخَلَتْهُ رَأْفَةٌ لَهُمْ وَرَحْمَةٌ، فَأَمَرَ بِالرَّايَةِ فَأُخِذَتْ مِنْ سَعْدٍ وَدُفِعَتْ إِلَى ابْنِهِ قَيْسٍ. وَعِنْدَ أَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ الزُّبَيْرِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَدَخَلَ مَكَّةَ بِلِوَاءَيْنِ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا، لَكِنْ جَزَمَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ دَفَعَهَا إِلَى الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِيمَنْ دُفِعَتْ إِلَيْهِ الرَّايَةُ الَّتِي نُزِعَتْ مِنْ سَعْدٍ. وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي الْجَمْعِ أَنَّ عَلِيَّا أُرْسِلَ بِنَزْعِهَا، وَأَنْ يَدْخُلَ بِهَا، ثُمَّ خَشِيَ تَغَيُّرَ خَاطِرِ سَعْدٍ فَأَمَرَ بِدَفْعِهَا لِابْنِهِ قَيْسٍ، ثُمَّ إِنَّ سَعْدًا خَشِيَ أَنْ يَقَعَ مِنَ ابْنِهِ شَيْءٌ يُنْكِرُهُ النَّبِيُّ ﷺ فَسَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ فَحِينَئِذٍ أَخَذَهَا الزُّبَيْرُ. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ الْأَخِيرَةُ قَدْ ذَكَرَهَا الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَلَفْظُهُ كَانَ قَيْسٌ فِي مُقَدِّمَةِ النَّبِيِّ ﷺ لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، فَكَلَّمَ سَعْدٌ النَّبِيَّ ﷺ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ يَقْدُمَ عَلَى شَيْءٍ، فَصَرَفَهُ عَنْ ذَلِكَ وَالشِّعْرُ الَّذِي أَنْشَدَتْهُ الْمَرْأَةُ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُ لِضِرَارِ بْنِ الْخَطَّابِ الْفِهْرِيِّ، وَكَأَنَّهُ أَرْسَلَ بِهِ الْمَرْأَةَ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الْمُعَاطَفَةِ عَلَيْهِمْ، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ شَكَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ مَا قَالَ سَعْدٌ فَقَالَ: كَذَبَ سَعْدٌ أَيْ أَخْطَأَ.
وَذَكَرَ الْأُمَوِيُّ فِي الْمَغَازِي أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ لَمَّا قَالَ: الْيَوْمُ تسْتَحيل الْحُرْمَةُ، الْيَوْمُ أَذَلَّ اللَّهُ قُرَيْشًا، فَحَاذَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَبَا سُفْيَانَ لَمَّا مَرَّ بِهِ فَنَادَاهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُمِرْتَ بِقَتْلِ قَوْمِكَ - وَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ - ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ فِي قَوْمِكَ، فَأَنْتَ أَبَرُّ النَّاسِ وَأَوْصَلُهُمْ، فَقَالَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَرْحَمَةِ، الْيَوْمُ يَعِزُّ اللَّهُ فِيهِ قُرَيْشًا. فَأَرْسَلَ إِلَى سَعْدٍ فَأَخَذَ اللِّوَاءَ مِنْ يَدِهِ فَجَعَلَهُ فِي يَدِ ابْنِهِ قَيْسٍ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ جَاءَتْ كَتِيبَةٌ وَهِيَ أَقَلُّ الْكَتَائِبِ) أَيْ أَقَلُّهَا عَدَدًا، قَالَ عِيَاضٌ: وَقَعَ لِلْجَمِيعِ بِالْقَافِ، وَوَقَعَ فِي الْجَمْعِ لِلْحُمَيْدِيِّ أَجَلُّ بِالْجِيمِ وَهِيَ أَظْهَرُ، وَلَا يَبْعُدُ صِحَّةُ الْأُولَى لِأَنَّ عَدَدَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ أَقَلَّ مِنْ عَدَدِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْقَبَائِلِ.
قَوْلُهُ: (وَرَايَةُ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، فَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِأَبِي سُفْيَانَ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ) لَمْ يَكْتَفِ أَبُو سُفْيَانَ بِمَا دَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبَّاسِ حَتَّى شَكَا لِلنَّبِيِّ ﷺ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: كَذَبَ سَعْدٌ) فِيهِ إِطْلَاقُ الْكَذِبِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِغَيْرِ مَا سَيَقَعُ وَلَوْ كَانَ قَائِلُهُ بَنَاهُ عَلَى غَلَبَةِ ظَنِّهِ وَقُوَّةِ الْقَرِينَةِ.
قَوْلُهُ: (يَوْمٌ يُعَظِّمُ فِيهِ الْكَعْبَةُ) يُشِيرُ إِلَى مَا وَقَعَ مِنْ إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ وَأَذَانِ بِلَالٍ عَلَى ظَهْرِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أُزِيلَ عَنْهَا مِمَّا كَانَ فِيهَا مِنَ الْأَصْنَامِ وَمَحْوِ مَا فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ) قِيلَ: إِنَّ قُرَيْشًا كَانُوا يَكْسُونَ الْكَعْبَةَ فِي رَمَضَانَ فَصَادَفَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْيَوْمِ الزَّمَانُ كَمَا قَالَ