طَرِيقِ أُخْرَى وَمَرَرْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مُنْهَزِمًا وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ فَقَالَ: لَقَدْ رَأَى ابْنُ الْأَكْوَعِ فَزَعًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ أَخَذَ التَّعْمِيمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ فَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ مِنَ الْعُمُومِ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ.
قَوْلُهُ: (وَلَكِنْ عَجِلَ سَرَعَانُ الْقَوْمِ فَرَشَقَتْهُمْ هَوَازِنُ) فَأَمَّا سَرَعَانُ فَبِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ، وَيَجُوزُ سُكُونُ الرَّاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَالرَّشْقُ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْقَافِ رَمْيُ السِّهَامِ، وَأَمَّا هَوَازِنُ فَهِيَ قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ مِنَ الْعَرَبِ فِيهَا عِدَّةُ بُطُونٍ يُنْسَبُونَ إِلَى هَوَازِنَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ فَاءٍ مَفْتُوحَاتٍ ابْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ، وَالْعُذْرُ لِمَنِ انْهَزَمَ مِنْ غَيْرِ الْمُؤَلَّفَةِ أَنَّ الْعَدُوَّ كَانُوا ضِعْفَهُمْ فِي الْعَدَدِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَ شُعْبَةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ السَّبَبَ فِي الْإِسْرَاعِ الْمَذْكُورِ قَالَ: كَانَتْ هَوَازِنُ رُمَاةً، قَالَ: وَإِنَّا لَمَّا حَمَلْنَا عَلَيْهِمُ انْكَشَفُوا. وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْجِهَادِ انْهَزَمُوا قَالَ: فَأَكْبَبْنَا وَفِي رِوَايَتِهِ فِي الْجِهَادِ فِي بَابِ مَنْ قَادَ دَابَّةَ غَيْرِهِ فِي الْحَرْبِ فَأَقْبَلَ النَّاسُ عَلَى الْغَنَائِمِ فَاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي الْجِهَادِ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ تَكْمِلَةُ السَّبَبِ الْمَذْكُورِ قَالَ: خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحَابِهِ وَأَخِفَّاؤُهُمْ حُسَّرًا - بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ - لَيْسَ عَلَيْهِمْ سِلَاحٌ، فَاسْتَقْبَلَهُمْ جَمْعُ هَوَازِنَ وَبَنِي نَضْرٍ مَا يَكَادُونَ يَسْقُطُ لَهُمْ سَهْمٌ، فَرَشَقُوهُمْ رَشْقًا مَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ نَزَلَ وَاسْتَنْصَرَ، ثُمَّ قَالَ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ.
ثُمَّ صَفَّ أَصْحَابَهُ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ زَكَرِيَّا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فَرَمَوْهُمْ بِرَشْقٍ مِنْ نَبْلٍ كَأَنَّهَا رِجْلُ جَرَادٍ فَانْكَشَفُوا وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ فِي سَبَبِ انْكِشَافِهِمْ أَمْرًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ سَبَقَ بِهِمْ إِلَى حُنَيْنٍ فَأَعَدُّوا وَتَهَيَّئُوا فِي مَضَايِقِ الْوَادِي، وَأَقْبَلَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى انْحَطَّ بِهِمُ الْوَادِي فِي عِمَايَةِ الصُّبْحِ، فَثَارَتْ فِي وُجُوهِهِمُ الْخَيْلُ فَشَدَّتْ عَلَيْهِمْ، وَانْكَفَأَ النَّاسُ مُنْهَزِمِينَ. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنِ السُّمَيْطِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: افْتَتَحْنَا مَكَّةَ، ثُمَّ إِنَّا غَزَوْنَا حُنَيْنًا، قَالَ: فَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ بِأَحْسَنِ صُفُوفٍ رَأَيْتُ؛ صُفَّ الْخَيْلُ، ثُمَّ الْمُقَاتِلَةُ، ثُمَّ النِّسَاءُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، ثُمَّ الْغَنَمُ ثُمَّ النِّعَمُ. قَالَ: وَنَحْنُ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَعَلَى مَيْمَنَةِ خَيْلِنَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَجَعَلَتْ خَيْلُنَا تَلُوذُ خَلْفَ ظُهُورِنَا فَلَمْ نَلْبَثْ أَنِ انْكَشَفَتْ خَيْلُنَا وَفَرَّتِ الْأَعْرَابُ وَمَنْ تَعْلَمُ مِنَ النَّاسِ وَسَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ قَرِيبًا مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَقْبَلَتْ هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ بِذَرَارِيِّهِمْ وَنَعَمِهِمْ وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَمَعَهُ الطُّلَقَاءُ، قَالَ: فَأَدْبَرُوا عَنْهُ حَتَّى بَقِيَ وَحْدَهُ الْحَدِيثَ.
وَيَجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِهِ: حَتَّى بَقِيَ وَحْدَهُ وَبَيْنَ الْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ بَقِيَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بَقِيَ وَحْدَهُ مُتَقَدِّمًا مُقْبِلًا عَلَى الْعَدُوِّ، وَالَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ كَانُوا وَرَاءَهُ، أَوِ الْوَحْدَةُ بِالنِّسْبَةِ لِمُبَاشَرَةِ الْقِتَالِ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ وَغَيْرُهُ كَانُوا يَخْدُمُونَهُ فِي إِمْسَاكِ الْبَغْلَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلُ تَفْصِيلُ الْمِائَةِ: بِضْعَةٌ وَثَلَاثُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْبَقِيَّةُ مِنَ الْأَنْصَارِ وَمِنَ النِّسَاءِ أُمُّ سُلَيْمٍ وَأُمُّ حَارِثَةَ.
قَوْلُهُ: (وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ) أَيِ ابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ النَّبِيِّ ﷺ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَلَقِيَهُ فِي الطَّرِيقِ وَهُوَ سَائِرٌ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَخَرَجَ إِلَى غَزْوَةِ حُنَيْنٍ فَكَانَ فِيمَنْ ثَبَتَ. وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ مُرْسَلِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ: لَمَّا فَرَّ النَّاسُ يَوْمَ حُنَيْنٍ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا أَرْبَعَةُ نَفَرٍ، ثَلَاثَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَرَجُلٌ مِنْ غَيْرِهِمْ: عَلِيٌّ، وَالْعَبَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِالْعِنَانِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ. قَالَ: وَلَيْسَ يُقْبِلُ نَحْوَهُ أَحَدٌ إِلَّا قُتِلَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ حُنَيْنٍ وَإِنَّ النَّاسَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute