وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَ تَصَرَّفَ فِي الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا انْهَزَمُوا فَلَمْ يَرْجِعُوا حَتَّى وَقَعَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْكُفَّارِ، فَرَدَّ اللَّهُ أَمْرَ الْغَنِيمَةِ لِنَبِيِّهِ. وَهَذَا مَعْنَى الْقَوْلِ السَّابِقِ بِأَنَّهُ خَاصٌّ بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ، اخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْخُمُسِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ أَنَّ فَتْحَ مَكَّةَ كَانَ سَبَبًا لِدُخُولِ كَثِيرٍ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ فِي الْإِسْلَامِ وَكَانُوا يَقُولُونَ: دَعُوهُ وَقَوْمَهُ، فَإِنْ غَلَبَهُمْ دَخَلْنَا فِي دِينِهِ، وَإِنْ غَلَبُوهُ كَفَوْنَا أَمْرَهُ.
فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ اسْتَمَرَّ بَعْضُهُمْ عَلَى ضَلَالِهِ فَجَمَعُوا لَهُ وَتَأَهَّبُوا لِحَرْبِهِ، وَكَانَ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَظْهَرَ أَنَّ اللَّهَ نَصَرَ رَسُولَهُ لَا بِكَثْرَةِ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِ مِنَ الْقَبَائِلِ وَلَا بِانْكِفَافِ قَوْمِهِ عَنْ قِتَالِهِ، ثُمَّ لَمَّا قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ غَلَبَتِهِ إِيَّاهُمْ قَدَّرَ وُقُوعَ هَزِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَقُوَّةِ عُدَدِهِمْ لِيَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ النَّصْرَ الْحَقَّ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِهِ لَا بِقُوَّتِهِمْ، وَلَوْ قَدَّرَ أَنْ لَا يَغْلِبُوا الْكُفَّارَ ابْتِدَاءً لَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ شَامِخَ الرَّأْسِ مُتَعَاظِمًا، فَقَدَّرَ هَزِيمَتَهُمْ ثُمَّ أَعْقَبَهُمُ النَّصْرَ لِيَدْخُلُوا مَكَّةَ كَمَا دَخَلَهَا النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ الْفَتْحِ مُتَوَاضِعًا مُتَخَشِّعًا، وَاقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَيْضًا أَنَّ غَنَائِمَ الْكُفَّارِ لَمَّا حُصِّلَتْ ثُمَّ قُسِّمَتْ عَلَى مَنْ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْإِيمَانُ مِنْ قَلْبِهِ لِمَا بَقِيَ فِيهِ مِنَ الطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ فِي مَحَبَّةِ الْمَالِ فَقَسَمَهُ فِيهِمْ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُهُمْ، وَتَجْتَمِعَ عَلَى مَحَبَّتِهِ؛ لِأَنَّهَا جُبِلَتْ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا. وَمَنَعَ أَهْلَ الْجِهَادِ مِنْ أَكَابِرِ الْمُهَاجِرِينَ وَرُؤَسَاءِ الْأَنْصَارِ مَعَ ظُهُورِ اسْتِحْقَاقِهِمْ لِجَمِيعِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَسَمَ ذَلِكَ فِيهِمْ لَكَانَ مَقْصُورًا عَلَيْهِمْ، بِخِلَافِ قِسْمَتِهِ عَلَى الْمُؤَلَّفَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِجْلَابَ قُلُوبِ أَتْبَاعِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْضَوْنَ إِذَا رَضِيَ رَئِيسُهُمْ، فَما كَانَ ذَلِكَ الْعَطَاءُ سَبَبًا لِدُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ وَلِتَقْوِيَةِ قَلْبِ مَنْ دَخَلَ فِيهِ قَبْلُ تَبِعَهُمْ مَنْ دُونَهُمْ فِي الدُّخُولِ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ عَظِيمُ الْمَصْلَحَةِ.
وَلِذَلِكَ لَمْ يَقْسِمْ فِيهِمْ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ مَكَّةَ عِنْدَ فَتْحِهَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا مَعَ احْتِيَاجِ الْجُيُوشِ إِلَى الْمَالِ الَّذِي يُعِينُهُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ، فَحَرَّكَ اللَّهُ قُلُوبَ الْمُشْرِكِينَ لِغَزْوِهِمْ، فَرَأَى كَثِيرُهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ فَكَانُوا غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ لَمْ يَقْذِفِ اللَّهُ فِي قَلْبِ رَئِيسِهِمْ أَنَّ سَوْقَهُ مَعَهُ هُوَ الصَّوَابُ لَكَانَ الرَّأْيُ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ دُرَيْدٌ؛ فَخَالَفَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَصْيِيرِهِمْ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ اقْتَضَتْ تِلْكَ الْحِكْمَةُ أَنْ تُقْسَمَ تِلْكَ الْغَنَائِمُ فِي الْمُؤَلَّفَةِ، وَيُوَكِّلُ مَنْ قَلْبُهُ مُمْتَلِئٌ بِالْإِيمَانِ إِلَى إِيمَانِهِ. ثُمَّ كَانَ مِنْ تَمَامِ التَّأْلِيفِ رَدُّ مَنْ سُبِيَ مِنْهُمْ إِلَيْهِمْ، فَانْشَرَحَتْ صُدُورُهُمْ لِلْإِسْلَامِ فَدَخَلُوا طَائِعِينَ رَاغِبِينَ، وَجَبَرَ ذَلِكَ قُلُوبَ أَهْلِ مَكَّةَ بِمَا نَالَهُمْ مِنَ النَّصْرِ وَالْغَنِيمَةِ عَمَّا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْكَسْرِ وَالرُّعْبِ فَصَرَفَ عَنْهُمْ شَرَّ مَنْ كَانَ يُجَاوِرُهُمْ مِنْ أَشَدِّ الْعَرَبِ مِنْ هَوَازِنَ وَثَقِيفٍ بِمَا وَقَعَ بِهِمْ مِنَ الْكَسْرَةِ، وَبِمَا قَيَّضَ لَهُمْ مِنَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يُطِيقُونَ مُقَاوَمَةَ تِلْكَ الْقَبَائِلِ مَعَ شِدَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا.
وَأَمَّا قِصَّةُ الْأَنْصَارِ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ فَقَدِ اعْتَذَرَ رُؤَسَاؤُهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ بَعْضِ أَتْبَاعِهِمْ، وَلَمَّا شَرَحَ لَهُمْ ﷺ مَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحِكْمَةِ فِيمَا صَنَعَ رَجَعُوا مُذْعِنِينَ وَرَأَوْا أَنَّ الْغَنِيمَةَ الْعُظْمَى مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ عَوْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَسَلُوا عَنِ الشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَالسَّبَايَا مِنَ الْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ، بِمَا حَازُوهُ مِنَ الْفَوْزِ الْعَظِيمِ، وَمُجَاوِرَةِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ لَهُمْ حَيًّا وَمَيِّتًا. وَهَذَا دَأْبُ الْحَكِيمِ يُعْطِي كُلَّ أَحَدٍ مَا يُنَاسِبُهُ، انْتَهَى مُلَخَّصًا.
قَوْلُهُ: (فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا إِذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ فَكَأَنَّهُمْ وُجُدٌ إِذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ، أَوْ كَأَنَّهُمْ وَجَدُوا إِذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ أَوْرَدَهُ عَلَى الشَّكِّ هَلْ قَالَ: وُجُدٌ بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ وَاجِدٍ أَوْ وَجَدُوا عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ. وَوَقَعَ لَهُ عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحدَهُ: وَجَدُوا فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَصَارَ تَكْرَارًا بِغَيْرِ فَائِدَةٍ، وَكَذَا رَأَيْتُهُ فِي أَصْلِ النَّسَفِيِّ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ كَذَلِكَ. قَالَ عِيَاضٌ: وَقَعَ فِي نُسْخَةٍ فِي الثَّانِي أَنْ لَمْ يُصِبْهُمْ يَعْنِي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَبِالنُّونِ قَالَ: وَعَلَى هَذَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ التَّكْرَارِ، وَجَوَّزَ الْكَرْمَانِيُّ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ مِنَ الْغَضَبِ وَالثَّانِي مِنَ الْحُزْنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute