اللَّهِ ﷺ فَقَالُوا لِي: إِنَّكَ عِنْدَنَا لَمُصَدَّقٌ، وَلَنَفْعَلَنَّ مَا أَحْبَبْتَ فَانْطَلَقَ أَبُو مُوسَى بِنَفَرٍ
مِنْهُمْ حَتَّى أَتَوْا الَّذِينَ سَمِعُوا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَنْعَهُ إِيَّاهُمْ ثُمَّ إِعْطَاءَهُمْ بَعْدُ فَحَدَّثُوهُمْ بِمِثْلِ مَا حَدَّثَهُمْ بِهِ أَبُو مُوسَى.
قَوْلُهُ: (بَابُ غَزْوَةِ تَبُوكَ) هَكَذَا أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَهُوَ خَطَأٌ وَمَا أَظُنُّ ذَلِكَ إِلَّا مِنَ النُّسَّاخِ، فَإِنَّ غَزْوَةَ تَبُوكَ كَانَتْ فِي شَهْرِ رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِلَا خِلَافٍ، وَعِنْدَ ابْنِ عَائِذٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ الطَّائِفِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَلَيْسَ مُخَالِفًا لِقَوْلِ مَنْ قَالَ فِي رَجَبٍ إِذَا حَذَفْنَا الْكُسُورَ ; لِأَنَّهُ ﷺ قَدْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ مِنْ رُجُوعِهِ مِنَ الطَّائِفِ فِي ذِي الْحَجَّةِ. وَتَبُوكُ مَكَانٌ مَعْرُوفٌ هُوَ نِصْفُ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ إِلَى دِمَشْقٍ، وَيُقَالُ: بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَبَيْنَهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَرْحَلَةً. وَذَكَرَهَا فِي الْمُحْكَمِ فِي الثُّلَاثِيِّ الصَّحِيحِ، وَكَلَامُ ابْنِ قُتَيْبَةَ يَقْتَضِي أَنَّهَا مِنَ الْمُعْتَلِّ فَإِنَّهُ قَالَ: جَاءَهَا النَّبِيُّ ﷺ وَهُمْ يَبْكُونَ مَكَانَ مَائِهَا بِقَدَحٍ فَقَالَ: مَا زِلْتُمُ تَبُوكُونَهَا، فَسُمِّيَتْ حِينَئِذٍ تَبُوكَ.
قَوْلُهُ: (وَهِيَ غَزْوَةُ الْعُسْرَةِ) وَفِي أَوَّلِ أَحَادِيثِ الْبَابِ قَوْلُ أَبِي مُوسَى: فِي جَيْشِ الْعُمرَةِ بِمُهْمَلَتَيْنِ الْأُولَى مَضْمُومَةٌ وَبَعْدهَا سُكُونٌ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ وَهِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قِيلَ لِعُمَرَ: حَدِّثْنَا عَنْ شَأْنِ سَاعَةِ الْعُسْرَةِ، قَالَ: خَرَجْنَا إِلَى تَبُوكَ فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ فَأَصَابَنَا عَطَشٌ الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ. وَفِي تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ قَالَ: خَرَجُوا فِي قِلَّةٍ مِنَ الظَّهْرِ وَفِي حَرٍّ شَدِيدٍ حَتَّى كَانُوا يَنْحَرُونَ الْبَعِيرَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِي كَرِشِهِ مِنَ الْمَاءِ، فَكَانَ ذَلِكَ عُسْرَةً مِنَ الْمَاءِ وَفِي الظَّهْرِ وَفِي النَّفَقَةِ، فَسُمِّيَتْ غَزْوَةَ الْعُسْرَةِ. وَتَبُوكُ الْمَشْهُورُ فِيهَا عَدَمُ الصَّرْفِ لِلتَّأْنِيثِ وَالْعَلَمِيَّةِ، وَمَنْ صَرَفَهَا أَرَادَ الْمَوْضِعَ. وَوَقَعَتْ تَسْمِيَتُهَا بِذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: مِنْهَا حَدِيثُ مُسْلِمٍ: إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا عَيْنَ تَبُوكَ وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ ﷺ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ سَبَقَاهُ إِلَى الْعَيْنِ: مَا زِلْتُمَا تَبُوكَانِهَا مُنْذُ الْيَوْمِ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ عَيْنَ تَبُوكَ ; وَالْبَوْكُ كَالْحَفْرِ انْتَهَى، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَمُسْلِمٍ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ، أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فِي عَامِ تَبُوكَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَيْنَ تَبُوكَ، فَمَنْ جَاءَهَا فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا.
فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَ إِلَيْهَا رَجُلَانِ وَالْعَيْنُ مِثْلُ الشِّرَاكِ تَبِضُّ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي غَسْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ مَائِهَا ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ كَثِيرٍ فَاسْتَقَى النَّاسُ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ مِنْ جِهَةِ الشَّامِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَرْحَلَةً، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ دِمَشْقَ إِحْدَى عَشْرَةَ مَرْحَلَةً، وَكَانَ السَّبَبُ فِيهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ وَشَيْخُهُ وَغَيْرُهُ قَالُوا: بَلَغَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَنْبَاطِ الَّذِينَ يَقْدَمُونَ بِالزَّيْتِ مِنَ الشَّامِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَنَّ الرُّومَ جَمَعَتْ جُمُوعًا، وَأَجْلَبَتْ مَعَهُمْ لَخْمَ وَجُذَامَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ مُتَنَصِّرَةِ الْعَرَبِ، وَجَاءَتْ مُقَدِّمَتُهُمْ إِلَى الْبَلْقَاءِ، فَنَدَبَ النَّبِيُّ ﷺ النَّاسَ إِلَى الْخُرُوجِ، وَأَعْلَمَهُمْ بِجِهَةِ غَزَوِهُمْ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: كَانَتْ نَصَارَى الْعَرَبِ كَتَبَتْ إِلَى هِرَقْلَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي خَرَجَ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ هَلَكَ وَأَصَابَتْهُمْ سُنُونَ فَهَلَكَتْ أَمْوَالُهُمْ، فَبَعَثَ رَجُلًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ يُقَالُ لَهُ: قُبَاذُ وَجَهَّزَ مَعَهُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَبَلَغَ النَّبِيَّ ﷺ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ قُوَّةٌ، وَكَانَ عُثْمَانُ قَدْ جَهَّزَ عِيرًا إِلَى الشَّامِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ مِائَتَا بَعِيرٍ بِأَقْتَابِهَا وَأَحْلَاسِهَا، وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ، قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَا يَضُرُّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَهَا وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَيَّانَ نَحْوَهُ، وَذَكَرَ أَبُو سَعِيدٍ فِي شَرَفِ الْمُصْطَفَى وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute